إن دول «اقتصاد الريع» هي التي تنطبق عليها نظرية ابن خلدون حول «ثلاثية أجيال عمر الدولة» (والجيل أربعون عاما)، إي جيل إقامة الدولة، ثم جيل ازدهارها، ثم جيل هرمها قبل سقوطها، كما فصل ذلك سّي عبد الرحمان الحضرومي في الفصل 14 من مقدمته الموسوعية («فصل في أن الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص»). ويتمثل الريع في إقامة الدولة لهياكلها ولهياكل اقتصاد مجتمعها على أساس مجرد الجباية العمومية («الخراج») المفروضة على منتجي الخيرات والقيم المضافة (رعي، فلاحة، صيد، استخراج، صنائع، تجارة)، جباية تستخلص بشكل مباشر أو بالتفويت لطرف مُضارب، ويتم أنفاق مخزونها في مختلف الأوجه الاستهلاكية (المتعة ومظاهر الترف) لا الاستثمارية (مختلف التجهيزات الأساسية) وبشكل محصور في عشيرة تتوسع باستمرار بمقتضى الديموغرافيا (الأبناء وأبناء الأبناء)، وبمقتضى الولاء والمشايعة (مختلف أجيال الموالي والمشايعين على جميع المستويات، من عشائر «الموالي»، أي مختلف العشائر الوظيفية المستعان بها، إلى طبقات رجال الدين والأدب والشعر والخطابة)، وبمقتضى توسع الإدارة (استحداث مزيد من الوظائف والخطط والمجالس، من الجند، إلى الشرطة، إلى مختلف الدواوين بدءا بديوان الخراج نفسه وانتهاء بدواوين الإنشاء ومجالس الحل والعقد، الأنس والدعاية لإعلامية). وإلى جانب هذا التوسع العددي المطرد ل»ذوي الامتياز»، يضاف ما يتطلبه نمط استهلاك ما يسميه ابن خلدون «تقليد الحاشية للحاكم» من تنافس في الاستهلاك الاستعراضي لدى هذه الفئات المتكاثرة عدديا مع توالي الأجيال، وعلى قدر مراتبها، في حين أن الاقتصاد المنتج للخيرات محصور الإمكانيات بحكم محدودية الموارد الطبيعية والموارد البشرية العاملة في إطار نمط معين للإنتاج ومستوى معين من التحكم في الطبيعة). كل هذا ما يزال صحيحا بمقدار ما لم يبلغ المجتمع المعين، في باب الإنتاج، مرحلة التكامل ما بين الصناعي (société industrielle) والخدماتي (société de services)، ومرحلة بداية تنامي استهلاك الخدمات والفنون (خدمات مرفقية، مطبوعات، مسرح، سينيما، بلاستيكيات، تواصل، سياحة) بالقياس إلى استهلاك المواد الأساسية من فلاحية وصناعية وتعميرية في باب الاستهلاك. وإذ بيّن ابن خلدون أن تضخم نفقات الدولة بتضخم عدد ذوي الامتياز، من عشيرة عصبية الدولة، ومن مختلف خدامها وموظفيها في الجند والإدارة وسلطتي السيف والقلم والدعاية بمختلف درجاتهم يؤدي إلى إفلاس خزائنها وإلى دخولها في مرحلة عمرها الثالث، فإنه قد نبه كذلك إلى أن «الدولة والسلطان هي السوق الأعظم، أم الأسواق»، و»أن في نقص العطاء من السلطان نقصا في الجباية»؛ ذلك أنه ((إذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت، فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة في الأسواق ممن سواهم، فيقع الكساد، وتضعف الأرباح في المتاجر، فيقل الخراج)). باعتبار الخطاطة الخلدونية، تكون الآن الدولة المغربية المستقلة، بهياكلها التي يتداخل فيها الحديث والعتيق، في نهايات جيلها الثاني. وهي وإن تميزت من حيث أسس نشأتها، ومن حيث أطرها الدستورية المتعاقبة، ودواليبها الإدارية، ونمط اقتصادها، عن النمط الذي يصفه ابن خلدون، فإن أوجها أساسية من أوجهها ما تزال تشترك فيها مع النمط القديم؛ وأهم تلك الأوجه المكانة التي يحتلها أسلوب الريع كمصدر للدخل في اقتصادها، والتضخم المستمر لنفقاتها في غير باب الاستثمار بمفهومه الواسع (استثمار التجهيزات، والاستثمار البشري، الذي هو مفهوم جديد اقتضاه دور المعرفة في اقتصاد المجتمعات الحديثة). ويتجلى الوجه الثاني في التضخم المستمر للنفقات العمومية في عدة مجالات لا مبرر لها، لا من حيث متطلبات التدبير، ولا من حيث جوهر الاقتصاد، بقدر ما تُتوخى منها مجرد غايات سياسية إن صوابا وإن خطأ (عدد كبير من المؤسسات من ذوات الوظائف التهديئية)، زيادة على النفخ المستمر في عدد أعضاء مؤسسات لها ما يبررها، مثل عدد أعضاء الحكومة، أوعدد أعضاء البرلمان، الذي أصبح في أصله ذا غرفتين (خلق مناصب لأن هناك من «يتعين توظيفه» تهديئيا وليس لأن هناك حاجة موضوعية إلى وظيفة). ويستفحل الوجه الثاني لتضخم النفقات العمومية في قطاع الوظيفة العمومية على الأخص، التي أصبحت بئرا غير ذات قعر. ولقد تضافرت سياسة الدولة مع ثقافة شعبية ترسخت منذ بداية الاستقلال على ترسيخ عُرف يجعل من الوظيفة العمومية «حقا دستوريا» لكل مواطن، مع فارق بسيط لكنه حاسم، ألا وهو أن الدولة في السابق كانت هي التي تطلب الوظائف، فتضع مساطر للالتحاق بتلك الوظيفة، تُحترم جميعُها من الناحية الشكلية على الأقل (تحديد شروط الالتحاق، إجراء مباريات) وفي حدود لا بأس بها من الناحية الجوهرية كذلك إذا ما تم غض الطرف عن هامش الفساد واستغلال النفوذ؛ أما اليوم فإن الفرد الذي يرشح نفسه للوظيفة العمومية، هو الذي يحدد «مسطرة الالتحاق بالوظيفة» التي أصبحت بمثابة كهف كنز من الدفائن تُسلك مختلف التعزيمات في سبيل الولوج إليه لإنهاء مهمة الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله. ((والذي يحمل على ذلك في الغالب، زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب، من التجارة، والفلح، والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة، وعلى غير المجرى الطبيعي، وركونا إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه)) كما قال ابن خلدون في «فصل في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي» من مقدمته. وقد أصبحت تلك المسطرة الشعبية تتمثل في الانخراط في جمعيات ومنظمات محترفة في قطاعي الريع السياسي والنقابي، وفي دفع «واجبات انخراط» وإتاوات «التسجيل في لوائح الإدماج المباشر» مقابل تأطير إنزالات جماعية إلى الشارع العام ببذلات أنيقة لابتزاز الدولة، التي لا يبرئها، من جهتها، أحدٌ من مسئولية نوعية التربية والتكوين والتوجيه التي وفرتها، ابتزازات كانت تقتصر على التظاهر بالشارع وترديد ريبيرتوار من الشعارات المطلبية «الحقوقية»، قبل أن تنتهي بالتهديد بالانتحارات الجماعية حرقا بالبنزين، ثم بعرقلة السكك الحديدية والطرق الوطنية ومعابر الترامواي واقتحام الإدارات والمؤسسات. ولقد كان للدولة بالفعل دور حاسم في ترسيخ هذه الثقافة الاتكالية، الناسفة لنواميس السعي وطلب المعاش، منذ أن أضافت إلى طامة فشل خطط التكوين، التي كانت دائما خططا سياسية في مضامينها، وفئوية في نوعية تكوينها، بدل أن تكون تدبيرية وتنموية وطنية، طامة أخرى تتمثل، منذ أن بدأ السحر ينقلب على الساحر، في الدخول في مسلسل ترقيعي من استرضاءات التهدئة السوسيو-سياسية غير المحسوبة العواقب لا من حيث مردودية «الإدماج المباشر» في حد ذاته في مختلف القطاعات، ولا باعتبار ما يترتب عليه من ترسيخ لثقافة طلب الرزق على غير المجرى الطبيعي ومن غير مغامرة ولا تعب ولا نصب في تحصيله. ولم يزد الأسلوب السياسي «التناوبي» على مراكز التدبير هذا الواقع إلا تفاقما، حيث أصبحت الضغوط والمزايدات من جهة، والاسترضاءات التهديئية من جهة ثانية، وسائل منهجية، من وسائل العمل والتدبير السياسيين الظرفيين عند فرقاء ذلك التناوب، في تجاهل تام للعواقب على مستوى آفاق الاستمرارية العامة للدولة التي أصبحت تهددها من جديد السكتة القلبية. فإذا كان اقتصاد الريع (امتيازات المقالع، والصيد، و»لاكريمات»، والصفقات العمومية، الخ) من الآفات التي تنخر الاقتصاد، أي اقتصاد، فإن وجها آخر لعقلية الريع مما يتفرع عن نفس الثقافة ونفس الأخلاق المدنية، هو اعتبار «الإدماج المباشر في الوظيفة العمومية» عرفيا «حقا دستوريا» و»حقا من حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا». إذا كان الوجه الأول يخرب الاقتصاد بنسفه لمبدإ التنافسية، التي يقوم عليها كل اقتصاد سليم معاصر، فإن الوجه الثاني يتجه بخزينة الدولة نحو الإفلاس، إضافة إلى أنه ينسف مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين ما بين فئة تكدّ وتغامر وتنصب فتنتج، وفئة من احترفوا النزول إلى الشارع لاكتساب «حق التسجيل»، ثم لاكتساب «حق معادلة الشواهد» لحمل هذا اللقب الأكاديمي أو ذاك أسوة بمن حصلوا على تلك الألقاب في البرصات والشارع، ثم لاكتساب حق ولوج ما يناسب تلك الألقاب في الوظيفة العمومية، في انتظار عودة الفائزين منهم إلى الشارع لاكتساب «صفة الترسيم»، وللاستفادة من «حق الترقية»، وذلك بتأطير من قبائل من المنظمات الفئوية المحترفة المتنافسة. على كل حال، وبقطع النظر عن المسؤولية الجسيمة للدولة في ميدان التربية والتكوين من خلال الحكومات المتعاقبة، ماذا يمكن أن يرجوه المجتمع ممن يقضي عشر سنوات مجندا دون كلل للنزول كل مساء إلى الشارع للاحتجاج، وأقصى ما يمكن أن يفعله في الحياة لكي يعطيها معنى هو أن يهدد بصب على نفسه البنزين على نفسه وقدح زناد؟