إثبات للذات أم تأمين لعيش ميسور؟ هذه هي الحقيقة المُرة، التي وقفت أمامها نساء عربيات يعملن في أكثر من مهنة، وأغلبهنّ اصطدمن عند سؤالهنّ بحاجز الحاجة، فتلك تعيل أسرتها، وأخرى تعيل أولادها بعد وفاة زوجها، وثالثة تجمع المال بحثاً عن عريس، وفي كل الحالات عمل واحد لا يسد الرمق، ركض ولهاث من الصباح إلى المساء طيلة أيام الأسبوع، لدرجة أن بعضهنّ تمنين أن تكون أيام الأسبوع أكثر، لكن الإرهاق بدا واضحاً على وجوه كثيرات منهن ، فقد كسبن المال على حساب العمر والحياة الخاصة، هذا من وجهة نظرهنّ، ولكن ماذا عن رأي الخبراء الإقتصاديين وتأثير عملهنّ على بطاقة الرجل؟ هذا ما يكشفه التحقيق التالي:- * من 20 ? 25 عاماً العمر أمامهنّ: الكمبيوتر يساعدهنّ في تحديد أعمالهنّ الإضافية، وربّما معرفتهنّ بلغات أخرى، لكن رغم توافر وسائل الإتصال، لم يبد الأمر سهلاً على الكثيرات من هذه الفئة العمرية، ورغم أنّ الفرحة كانت تغمر فاطمة النمر، بعد تخرجها بقسم تكنولوجيا الإتصال في لندن، لكنها لم تجد عملاً في السعودية، حيثُ تقيم، فعملت مدربة رياضية في صالات أحد الفنادق، ومسؤولة تسويق بالفندق براتب قليل, فاتجهت للعمل في التصميم والفوتوشوب من المنزل، مما أثر على علاقتها بأطفالها، فاضطرت أخيراً إلى تقديم إستقالتها، وتأسيس مشروع خاص بها حتى استقر وضعها نفسياً وصحياً ومادياً. ومثلها أجبرت الطالبة الجامعية في الإمارات لجين عادل، على امتهان وظيفتين في وقت واحد؛ لتسد مصاريف دراستها، وأحد العملين كان في محل للزهور صباحاً، والآخر في الترجمة وتحديث المواقع الإلكترونية مساءً، لا يعتبر المورد ثابتاً، ويتبع لأمزجة الزبائن، تتابع لجين: «أغلب الشركات ترفض توظيف الطالبات، أشعر بأنّ الحياة بالنسبة لي مضمار للركض لا متسع فيه للراحة بين العمل والدراسة المكلفة جدّاً في الإمارات». فيما وجدت هنادي إبراهيم، موظفة حكومية بمصر، أن متابعة أشغالها اليدوية، من مفارش وتطريزات، ستوفر لها دخلاً مقبولاً، فبدأت تسوقها بنفسها داخل أروقة العمل الأساسي لها، لكن حظها يبدو أوفر من غيرها؛ فهي تمارس المهنة الأخرى كهوايت تحبها. لانا بشارات، أردنية، بدت متباهية بما تقوم به من أعمال متعددة، فإثر تخرجها في الجامعة، اشتغلت في مكتب لإحدى الشركات في الفترة الصباحية، وفي تنظيم عروض الأزياء في الفترة المسائية، حتى نجحت في إنشاء وكالة «لانا بشارات لتنظيم المناسبات»، إضافة لإعدادها وتقديمها برنامج «الموضة والأناقة» على قناة رؤيا الأردنية، ورغم كل أعمالها، فهي تملك مع إخوتها محطة وقود وسوبر ماركت تديرهما لساعات قليلة في اليوم، وعند دخلها الشهري تعلق: «لا أعرفه! إلا أني أمارس عدة مهن لأثبت ذاتي، لا سعياً نحو جمع المزيد من المال». ولأنّ الأجور الحالية في المغرب لا تسمح بسداد أقساط السيارة، والشقة، وتأمين دراسة الأطفال في مدارس خصوصية، اضطرت كريمة بديع، ممرضة، أن تقوم بحقن المرضى في منازلهم عند الطلب، وتبيع مستحضرات التجميل لزميلاتها، وبهذين العملين ضمنت مصروف الجيب ودفع قسط السيارة شهرياً. تدرك كريمة أن ما تقوم به على حساب راحتها، خصوصاً عندما تقوم بجولات على موظفات يشتغلن في إدارات متباعدة؛ لتعرض عليهنّ مستحضرات التجميل، لكن الظروف تفرض عليها ذلك! * من 25 ? 30 عاماً: عمر الزواج الضائع: في هذا العمر تبدأ مأساة الخريجات، خصوصاً اللواتي يطمحن لإتمام دراستهنّ، فبعد تخرجها في الجامعة، إدارة أعمال، أوصدت الوظائف الحكومية الأبواب في التوظيف، فقررت السعودية صفاء محمد، اللجوء إلى الشركات الخاصة التي خيبت آمالها أيضاً. فيما بدت ندى عشي، مصممة إعلانية في الإمارات، مرهقة تماماً، العمل براتب قليل من الساعة 9 صباحاً إلى 5 مساءً، وقد تحملت الأمر في البداية؛ لتحصل على خبرة كافية، لكن غلاء المعيشة في الإمارات جعلها تلجأ إلى التصوير وصناعة الأفلام القصيرة والتنفيذ الدعائي، تتابع ندى: «لا أتخيل نفسي مساء أقف في محل بيع زهور مثلاً، فالعمل في مجال آخر يشتت الأفكار، بينما التواجد في نفس دائرة المعرفة يزيد الخبرة». ومثلها دأبت نيرة عبدالمنعم، معلمة لغة عربية، من مصر، على العمل نهاراً في المدرسة؛ لتواصل ليلاً التدريس بمركز دروس خصوصية، إلا أنّها، حسب قولها، باتت تعاني من المجهود البدني والذهني لدرجة تنازلت فيها عن حقوقها كإنسانة في سبيل أن توفق بين عملها وبيتها كزوجة وأُم». وفاة الزوج وإعالة أربع فتيات، أجبرا حارسة في مؤسسة تعليمية، هي المغربية زينب، أُم رحمة، على طرق أبواب البيوت الميسورة طالبة العمل، وإلى جانب ذلك راحت تبيع، وتشتري ألبسة نسائية ثلاث مرّات في الأسبوع في سوق تجارية، بعيدة عن مكان المؤسسة التي تشتغل فيها، لكن زينب لم تخف تراجع حالتها الصحية، وعلقت: «يصعب عليَّ أن أتحمل أكثر مما أتحمله رغم أن دخلي وصل إلى 2000 درهم مغربي شهرياً». * من 35 ? 40 عاماً: نقمة على الصحة: سواء تزوجن أو بقين عازبات، ستبدأ الأمراض في هذا العمر تنذر النساء ليأخذن قسطاً من الراحة، فالإعلامية السعودية هيا تركي، عملت في مجال الإعلام بإحدى الصحف الدولية برواتب مقطوعة، إضافة لعملها في صحيفة إلكترونية وعملت أيضاً في تسويق الإعلانات، وكان هذا الضغط قد سبب لها آلاماً بالظهر نتيجة الجلوس لساعات طويلة على جهاز الحاسب الآلي، تعلق هيا: «أدركت أنّ التعدد في الوظائف نقمة والصحة نعمة». أينما أرمي الحجر أصيب، هذا رأي مديرة علاقات عامة ومنسقة مناسبات ومنظمة معارض وخبيرة إعلامية لعدد من وجوه المجتمع، أعمال تقوم بها معاً رحمة حميد في الإمارات، وبرأيها أنّ هذا يحدث بالصدفة، حيثُ يعرض عليها عمل جانبي يدر دخلاً كبيراً، فتتمسك به مع عملها الأصلي، تتابع رحمة: «الحياة الراقية في الإمارات عملية جدّاً وسريعة ومكلفة، وهذا يتطلب المهارة والعمل المستمر، وأعتقد أنّ هذا ينطبق على الكثير من سيدات دبي، لكنني أبدأ العمل الساعة 9 صباحاً وأنتهي الساعة 8 مساءً، وأحياناً يستمر عملي حتى 2 صباحاً، أمّا الدخل فأفضل الإحتفاظ به لنفسي». ورغم أن نهاد كامل، طبيبة أطفال، بمركز طبي بمصر، لم تقض سابقتها رحمة في الإمارات سني دراسة أخذت من عمرها الكثير، إلا أنها أيضاً تعمل ليلاً: لزيادة دخلها، لا تنكر أنّ هذا يعطيها خبرة أفضل، لكنها تردد بصوت متهدج: «تعبت، خاصة أن لديَّ واجبات أسرية أخرى، وما يخفف عني هو إبتسامة طفل يشفى، ويزيح عني كل العناء والإجهاد». ولأن سميرة فاضل، أردنية، تعمل مديرة علاقات عامة بشركة تجارية، وترفض إرتباط موظفيها بعمل آخر، رفضت إعطاءنا اسمها الحقيقي؛ لأنّها تعمل سراً مع شركة أخرى بالترجمة والطباعة، ولم تمر فترة عليها إلا وكانت تعمل في ثلاث وظائف معاً، لكن الأمر لم يتعبها أمام ما جنته من مال، فقد اشترت منزلاً لأهلها، وفتحت بقالة لشقيقها المريض، تعلق سميرة: «لم أحرم نفسي حتى من شراء سيارة خاصة». فيما ترى فاطمة حجو، مغربية، عاملة في شركة للنظافة، نفسها أكثر من كادحة، فهي إلى جانب عملها الأساسي، تنتقل يومياً بين سبع عمارات متفرقة، وتعمل على تنظيفها، ومما يزيد من تعبها عدم توافر المصاعد، تعبر فاطمة عن تعبها، ولكنها تتساءل: «ماذا تفعل أرملة تعيل ثلاثة أولاد يتابعون دراستهم؟ فراتب الشركة التي أشتغل بها لا يكفي حتى تسديد فاتورة الماء والكهرباء وضمان عيشة مستورة، أتمنى أن تكون أيام الأسبوع أكثر من سبعة؛ للبحث عن شغل إضافي آخر يضمن لي رزقاً حلالاً آخر «. * ظروف النساء: وصف الخبير الإقتصادي السعودي، عبدالوهاب القحطاني، أستاذ الإدارة الإستراتيجية والموارد البشرية بجامعة الملك سعود بالدمام، إقبال السعوديات على العمل في أكثر من وظيفة ب «الكارثة الإنسانية»، وتابع: «الفئات العمرية من ال20 إلى 35 يسوقن لأدوات التجميل أو العقارات، أو إعلانات الصحف، أمّا من ال35 إلى 40 عاماً فنرى نضجاً في الخيارات الوظيفية ذات العوائد المالية المستقرة، إلا أنّ السعوديات في الفترة الأخيرة توجهن إلى تأسيس مشاريع خاصة بهنّ مستفيدات من القروض». بينما يرى المحلل الإقتصادي بمركز مباشر للأبحاث الإقتصادية بمصر، عمرو العراقي، أن إشغال المرأة المصرية لمهنتين، يوقع الرجال في البطالة، لكنه بدا متفائلاً: لأنّ المصريات تقريباً يعملن في مجالهنّ، ويفترض أن زيادة دخلهنّ تزيد في الجانب الترفيهي لأسرهنّ، فتعود الأموال إلى السوق مرّة أخرى. في حين بدا المحلل الإقتصادي الأردني عوني الداوود، معجباً بهذه الظاهرة الجديدة، رغم أن نسبة البطالة لدى النساء الأردنيات نحو 20% مقابل 10% لدى الرجال في الأردن، لكن الأردنية تفوقت على الرجل في قطاع الخدمات فقط، حيثُ وصلت أعدادهنّ إلى 20%، ويعتقد عوني أن توفر الوسائل التكنولوجية الحديثة هي التي ساعدتهنّ على العمل بأكثر من وظيفة، ويستدرك: «رواتبهنّ ليست عالية، حيثُ تبدأ ب750 إلى 2000 دولار لمن يعملن في أكثر من وظيفة، فالمهندسات يعملن إستشاريات في شركات أخرى، ومدرسات الثانوية يعطين دروساً خصوصية، وما يساعد على العمل قدرتهنّ على التحمل أكثر من الرجل، وحاجتهنّ للمال، ووقت كبير يستثمرنه قبل الزواد والإنجاب»، وبإعتقاده أن عدد اللواتي يعملن في أكثر من مهنة لا تتجاوز نسبتهنّ ال5%». وطبقاً لبعض الإحصائيات، التي ذكرها لنا الباحث الإجتماعي المغربي، عبدالله العشاب، فإن 40% من الأسر المغربية لا يتعدى دخلهم دولاراً في الشهر، وهذا يبرر عمل المرأة ليل نهار لضمان التوازن المالي للأسرة والعيش الكريم في ظل إرتفاع الأسعار.