ثلاثة أشهر مرت على يوم نجاح الثورة التونسية ، ثلاثة أشهر مرت على رحيل الرئيس السابق بن علي، ثلاثة أشهر مرت على تحرير قرار الفرد التونسي. عاد الأمن بعض الشيء للشارع، غير أن الأمن لا بد أن يكون في القلوب، وما زال الأمر أبعد من أن يكون كذلك. عادت الحياة إلى مسارها ، ولكنها أبعد من أن تكون كما سبق وكانت، فالإعتصامات والإضرابات ، جارية على قدم وساق ، وكأن الحكومة المنبثقة من الثورة قد جاءت ومعها عصا سحرية لرفع الأجور وتثبيت غير المثبتين من العمال والموظفين. ولكن الأغرب من ذلك ولنقلها صراحة إن ديكتاتورية بن علي قد عوضتها ديكتاتورية أخرى مشتتة بلا رأس ولا عيون هي ديكتاتورية الشارع. إنه موضوع في غاية الحساسية، فالحديث في تناقض مع السائد ، يعرض صاحبه لأعتى الإتهامات. فهو مضاد للثورة، مناوئ لها، من أتباع النظام البائد، هذا حتى لأولئك الذين كانوا من ضحايا ذلك النظام ، ممن دفعوا من حريتهم ومن رغيف خبزهم ثمنا باهظا أيام كانت الأفواه مكممة، أيام كان الرعب سائدا مسيطرا إلا للبعض من الشرفاء الشجعان الذين واجهوا الواقع المتردي ونالوا نصيبهم من التعسف. غاب صوت العقل وجاء صوت العاطفة الجياشة ، وركب الثورة ( ليس الصادقين ممن قاموا بها وكانوا وقودها وحطبها ) ركبها الذين يرفعون عقيرتهم إما صدقا أو من الإنتهازيين ، وغالبهم للتغطية على ما اقترفوه من تمسح بأهداب السلطة عندما كان بن علي مسيطرا عليها. ولذلك فإن الفترة تبدو فترة صمت مطبق كما قال أحد الأساتذة الجامعيين نال ما نال في أيام بن علي من أذى ، فأمام ضجة كبيرة يصم صوتها الآذان ليس علينا كما يقول الرجل سوى أن نسكت حتى تأتي فترة جديدة تهدأ فيها النفوس، وتتراجع الجلبة. ويحين للمفكرين وقت رفع أصواتهم بالتحليل المنطقي للأشياء. قبل ذلك ليس هناك من مجال للتعبير عن رأي مخالف للرأي السائد. لا حديثا ولا كتابة ، لا حديثا في الإذاعة ولا ظهورا في التلفزيون. لا مقالات على المواقع، ولا أي وسيلة أخرى من وسائل الإتصال. وستمر المرحلة ليستعيد المفكر، والمبدع والمثقف حقه في التعبير الحر دون خوف أو وجل. ولقد قال لي شخص معين أخيرا ، كم هي جميلة الحرية ، ولكن بعد أن يستقر أمرها وتصبح قاسما مشتركا أعظم بين كل الناس وقاسما أعظم مشتركا لا حكرا على الذين يظنون أنها لهم وحدهم. وفي الإنتظار على المرء أن يتولى تعميق أطروحاته ، حتى يأتي اليوم الذي يمكنه أن يصارح مجتمعه بحقيقة الشعور وخاصة حقيقة الواقع . لا بد إذن من جلاء الموقف واتضاح الصورة حتى يأتي دور المثقف للمصارحة واعتماد العقل والسير بواقعية أمام الجماهير وقيادتها لا اللهاث وراءها. فما يشبه الإنتحار اليوم أن تقع مواجهة موجات الحماس المفرط ، لكن المجتمعات تبقى في النهاية في حاجة إلى عقل العقلاء وإرادة المثقفين لتتقدم بعد أن يكون قد مر وولى عهد العواطف الجياشة التي تكتسح في طريقها كل شيء. إن الثورة بعد أن تهدم السيء والفاسد الموروث لا بد لها أن تشرع في البناء مجددا ،والمثقفون الواعون هم الذين سيقودون في النهاية المسار نحو الغد المشرق القائم على الحرية والديمقراطية فيجد كل فرد وكل فئة حقهما الطبيعي في الإختلاف والإتفاق في نطاق وفاق وطني كامل قائم على النظر للمصلحة الوطنية. ولعل انتخابات 24 يوليوز 2011 ونتائجها التي سيفصح عنها صندوق الإقتراع للمرة الأولى في تاريخ البلاد ، هي التي ستدفع إلى الإستقرار وإلى عودة وسيادة العقل . إن الثورة مرحلة ضرورية لاقتلاع الفساد ورسم طريق جديدة، ولكن البلاد وانطلاقتها المتجددة تبقى ضرورية وفي ظل تغيير شامل حتى يسير الوطن أي وطن على سكة البناء والتطور. * كاتب صحفي رئيس التحرير السابق لصحيفة الصباح التونسية [email protected]