«إذا أردت أن تضفي على الدولة ثباتا، قرب بين الحدود القصوى بقدر الإمكان، فلا يبقى فيها غنى فاحش ولافقر مدقع، فهذان الوضعان اللذان لاينفصلان عن بعضهما البعض، مضران بالخير العام، إن آحدهما يؤدي إلى وجود أعوان الطغاة والآخر إلى الطغاة، وفيما بينهما تشتري الحرية وتباع، أحدهما يشتريها والآخر يبيعها». جان جاك روسو في العقد الإجتماعي الفصل 11 الكتاب 2 . إن المشاهد لما جرى ويجري بالعالم العربي (تونس، مصر، ليبيا..) يكون في حيرة من أمره، أثناء بحثه عن إيجابات للتساؤلات الآتية: لماذا هذه الاحتجاجات بهذه المنطقة من العالم؟ وقتها وأسلوبها؟ من الفاعل الحقيقي؟ هل داخلي أم خارجي؟ ما العلاقة بين الأحداث والعولمة الإقتصادية؟ هل هي مسألة لتصدير الأزمة المالية والعالمية لهذه المنطقة؟ إختلاف مواكبة القادة الغربيين للأحداث من دولة لأخرة؟ مانسبة مشاركة الشباب فيها؟ كثرت الدراسات والندوات، في فهم الأحداث، لكنها، لم تضع الأصبع على المداخلات الحقيقية، التي جعلت المخرجات على هذه الشاكلة، ومع ذلك فإنها إتفقت جميعها على سبب هذه الثورات والمتمثل في حاجة الناس إلى التغيير والعيش الكريم. إذا سلمنا بنجاح هذه الشعوب في تحقيق حلم التغيير (تغيير الأشخاص) فهل نجحت في تغيير أنظمة دولها؟ الحصيلة لحد الآن تبين أن مطلب الديموقراطية لم يتحقق بعد، لن أعود للإجابة عن عوامل ومسببات هذه الثورات (الياسمين، 25 يناير، 17 فبراير) بقدر ماسأحاول الحديث عن نتيجتها، وذلك بناء على حصيلة التاريخ السياسي لكل واحدة منها: حالة مصر: عرفت، لحد الآن، ثلاث ثورات، ثورة شتنبر 1881 بقيادة يوليو 1952، بزعامة جمال عبد الناصر والتي اندثرت بهزيمة الجيش المصري عام 1968، واحتلال سيناء والقدس، وأخيرا ثورة 25 يناير 2011 بميدان التحرير، والتي تمكنت من تغيير رأس النظام، غير أن مطلب الديموقراطية الجوهري، تلزمه قطع أميال أخرى، بتنسيق جميع جهود الغيورين على البلاد. حالة تونس: بالرغم من حداثة الدولة، بمقارنتها مع مصر، فإنها لم تتنفس الصعداء منذ خروج المستعمر الفرنسي عام 1956 (طيلة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي) إلى حين إندلاع ثورة الياسمين. حالة ليبيا: عاشت ثورة واحدة عام 1971، بعد إستقلالها عن إيطاليا، غير أنها لم ترق، طيلة أربعة عقود، إلى طموحات الشعب على المستوى التنموي والديموقراطي، بالرغم من الإمكانات النفطية والبشرية، وموقعها الجيوستراتيجي فجاءت ثورة 17 فبراير، لتقول لا لما حصل ما بعد 1971إلى حدود الآن ديموقراطيا وتنمويا. إن التاريخ السياسي لهذه الدول، يوضح بجلاء أنها لم تنجح في وضع السبيل الناجع لإقتطاف فاكهة الثورات، الديموقراطية الحقيقية، وبالتالي تحقيق التنمية التي سعت إليها الشعوب بعد دحر المستعمر (الإتجليزي، الإيطالي، الفرنسي) سنسعى في الاتي إلى تصنيف هذه الثورات معتمدين في ذلك نظريات الفكر السياسي، واستشراف مستقبلها حسب النماذج الممكنة التطبيق. أولا: تصنيف الثورات حسب نظريات الفكر السياسي الحديث: ماهي الخانة التي يمكن وضع فيها هذه الثورات، هل هي اشتراكية يسارية، أم إسلامية، أم ليبرالية. حسب شكل هذه الثورات، نلاحظ أنها شبابية اعتمدت وسائل الإتصال الجديدة، (فايسبوك، تويتر، يوتوب...) في تداول الأخبار والمعلومات، حيث تمكنت هذه الفئة من الانفلات من الضبط والمراقبة خاصة في تلك الكيانات السياسية، المغلقة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن...إلخ) فاعلوا هذه الثورات عبارة عن هيئة فسيفساء تضم إيديولوجيات مختلفة (إسلامية، يسارية، مسيحية، ليبرالية...) أما حسب مضمون خطابها، فيمكن تصنيفها، ضمن خانة الفكر السياسي الليبرالي، وذلك إنطلاقا من الشعارات المرفوعة المطالبة بإصلاحات إقتصادية سياسية ليبرالية، تتماشى والشعار اللبرالي الشهير «دعه يعمل، دعه يسير» وهي فرضية، يؤكدها خطاب الإسلام السياسي بمصر وتونس، حيث دعما طموحات الشباب في العيش الكريم والتغيير نحو الأفضل، دون فرض اقتراحات عملية تذكر. إضافة إلى أنها تطبق فكرة أساسية في الفكر السياسي الليبرالي مفادها روح العصر في التغيير، وهومبدأ نادى به المفكر الأب سييس في الثورة الفرنسية، حيث يتم إعتماد القوة في تغيير الأنظمة السياسية والإقتصادية ، وهو ما سارت فيه ثورتا تونس ومصرإلى حدما وثورة ليبيا بحدود قصوى. للإشارة، هناك فكرة أخرى تنادي بالتغيير السياسي والمرن مع استمرار المؤسسات وهو النموذج البريطاني المطبق لنظرية ايدموند برك، والمسماة بروح التاريخ. الخلاصة، أن تصنيف هذه الثورات، يمكن وضعها في خانة الفكر السياسي الليبرالي، وذلك حسب المعطيات الاتية، وكذا معطى العولمة الإقتصادية والسياسية. ثانيا: محاولة استشراف مستقبل هذه الثورات: هناك سؤالان يطرحان نفسيهما، وهما أثر الثورة على النظام الدستوري؟ ونموذج النظام السياسي المبتغى؟ فيما يتعلق بأثر الثورة على النظام الدستوري، هناك إتجاهين، أولهما يقول بأن نجاح الثورة يؤدي إلى سقوط الدستور من تلقاء ذاته، متى تنافت أحكامه مع مطالبها، دون حاجة إلى قانون يلغي النظام السابق، وهو وضع ينطبق على حالة تونس، حيث وافقت الحكومة المؤقتة على موعد لإجراء إنتخابات لأعضاء جمعية تأسيسية تكون مهمتها الرئيسية وضع دستور للدولة، حيث الشعب هو الذي يتولى وضع الدستور بأسلوب غير مباشر، عبر ممثلين ينتخبهم من أجل هذه الغاية. أما الاتجاه الثاني، فلا يقول بسقوط الدستور، أثر نجاح الثورة حيث ذاك يتوقف على موقف الثوار من الدستور، فقد يكونوا مواليين للدستور حريصين عليه، رافضين لانتهاكه من لدن السابقين، وبالتالي لايقومون بإلغائه، فهدفهم هو حمايته من سوء التطبيق. وهي حالة نجدها في مصر، حيث لم يتم تغيير الدستور، من خلال إنتخاب جمعية تأسيسية، وإنما بإلغاء بعض الفصول التي كانت مثار جدل خلال العقود الماضية (كفصل كيفية إنتخاب رئيس الدولة). وفيما يتعلق بنموذج النظام السياسي المبتغى، هناك نماذج عديدة يمكن اقتباسها وتطبيقها، على المستوى العالمي، نجد النظامين الفرنسي والأمريكي، وعلى مستوى العالم الإسلامي نجد النظامين التركي والمغربي. تحاول مصر ما بعد الثورة، اقتباس النظام السياسي الأمريكي، من خلال انتخاب رئيس لمدة أربعة سنوات وتكرر مرة واحدة ليس إلا، وهي فرضية إن تم تطبيقها، فستتيح فرصة دوران النخب السياسية، وبالتالي غنى النظام السياسي المصري بالأطر الكفئة التي ستعطي الأمل للشعب المصري في إعادة الريادة للبلاد على المستويين السياسي والاقتصادي داخل منطقة العالم العربي. أما في تونس، حسب المعطيات الآنية، فتسير في اتجاه تطبيق النظام الفرنسي (جمهوري برلماني) حيث السلطة التنفيذية مجزأة بين رئيس الجمهورية والوزير الأول. غير أن غالبية التونسيين يحبذون النموذج التركي، الذي خطب الأضواء في العالم الإسلامي والغربي، من حيث ديمقراطيته الصلبة والمستدة مشروعيته من لدن الشعب. في ليبيا نجد حمل ثوار 17 فبراير لرايات جديدة قديمة تعود للعهد الملكي السنوسي، حيث تعطي إشارات بأن النظام الملكي لو كتب له البقاء ستكون نتيجته الديمقراطية والاقتصادية أحسن بكثير من الأنظمة الجمهورية السائدة الآن. وهنا أشير إلى النموذج المغربي، الذي له مكانة وشرعية عبر قرون خلت ومع ذلك، تظهر بعد فترة وأخرى مطالب للإصلاح، سواء خلال بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ (4 يناير 1908) حيث حدد مبايعوه برتفاق معه منهاجا للحكم في الميدان الداخلي والخارجي، وبعد استقلال المغرب نادى اليسار المغربي بملكية دستورية، وهي ذاتها مطالب حركة 20 فبراير. إذن النموذج المغربي ، يحتدى به على المستويين العربي والغربي، فعلى جميع الفاعلين توطيده وتقويته من خلال وضع آليات لتخليق ماهو سياسي، إداري واقتصادي. في الختام أخلص لما قاله المفكر جون بودان في الجمهورية، الكتاب 6 الفصل 5» كثير من الحكام كانوا سببا في انهيار جمهوريات عظيمة ومزدهرة تحت تأثير نظام قانوني أغراهم بريقه فنقلوه عن جمهوريات أخرى تخالف ظروفها تماما عن ظروف بلادهم».