فاجأ جلالة الملك المغاربة قاطبة بخطابه الوطني التاريخي يوم 9 مارس الماضي، مصدرا وعدا ملكيا جديدا بالتجاوب مع الشارع المغربي ومع أحزاب الكتلة الديموقراطية ، التي طالما نادت بالإصلاح الدستوري، بإصدار دستور سادس يناسب عهد جلالة الملك محمد السادس، وهو ما صفق له الرأي العام الوطني والدولي وأبدى له الجميع الارتياح الكبير، لكونه كان بردا وسلاما على المشهد السياسي المختنق بالبلاد. لقد كانت قومة الشباب المغربي مؤخرا المواكبة لانتفاضة شباب الشعوب العربية رسالة واضحة التقطها جلالة الملك بشكل برقي، واعدا بمراجعة دستورية عميقة تشمل إصلاحات جديدة شاملة، تتجاوب مع الشعارات الشبابية الجريئة ، والتي لم تقو حتى الأحزاب السياسية الديموقراطية على التصريح بها ، معلنا بكل صراحة وجرأة ووطنية إدراك جلالته لجسامة التحديات ولمشروعية تطلعات الفئات الشبابية المتظاهرة والحاجة الماسة لتقويم الاختلالات. لقد كانت الجرأة التي تصرف بها ملك البلاد فريدة وغير مسبوقة عبر تاريخ المغرب، أعطت الدرس السياسي لنفاق غالبية الأحزاب ولمقربيه الذين طالما غردوا خارج السرب ، بمقولتهم بأن: دستور 1996 كاف في حد ذاته لإنقاذ الوضع السياسي المأزوم بالبلاد ، ولا داعي إلى تعديله أو بالزعم بأن إذا ما كان التعديل لازما فهو لن يطال سوى فصلين أو ثلاثة فقط ، دون أن المس بصلاحيات جلالة الملك، إنها سفسطة وقمة النفاق السياسي فضحت هذه الترهات المبتذلة ، حيث تفاعل ملك البلاد مع مطالب الشباب وضعاف العباد، معلنا استعداده للقيام بتعديل دستوري شامل، مما يفيد أن المغرب مقبل فعلا على دستور جديد مخالف البتة للدستور الحالي ، الذي استنفد مهامه ، بعدما أحدث جلالته العديد من الأوراش السياسية الجديدة « صارت متقدمة ، بالنسبة لما يتيحه الإطار الدستوري الحالي». ولقد كان خطاب جلالة الملك صفعة للعديد من المنابر التي تقاوم التغيير والإصلاحات الملكية من المتنفذين والأعيان وجيوب المقاومة، الذين ما فتئوا يشككون في كل الخطوات الإيجابية الملكية والحكومية على السواء ، حيث منذ تولي جلالة الملك الحكم وهم يقاومون القيم والمضامين والمنهجية الديموقراطية التي رسخها جلالته ، ويقاومون المبادرات الحكومية التنموية البناءة التي يدشنها الأستاذ عباس الفاسي ووزراءه بشكل غير مسبوق، حيث بعدما تجرأوا على انتقاد الأوراش الملكية وكذا محاولاتهم اليائسة بالإطاحة بالحكومة الحالية ، سارعوا مؤخرا إلى إطلاق إشاعة التعديل الحكومي ، وهو ما رد عليه جلالته ، من منطلق كون الحكومة حكومته وأوراشها أوراشه وهو المشرف عليها ، معلنا في خطابه الأخير بأن:» وإلى أن يتم عرض مشروع الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي ، وإقراره ودخوله حيز التنفيذ ، وإقامة المؤسسات المنبثقة عنه،فإن المؤسسات القائمة ، ستواصل ممارسة مهامها،في إطار مقتضيات الدستور الحالي.» ، مطالبا الجميع بإنجاح هذا المشروع الدستوري الوطني ، بما فيه جيوب المقاومة المتصدية للإصلاح مطالبا إياها ب: « جعل المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار». ومن بين الرسائل القوية الموجهة إلى جيوب المقاومة أيضا إعلان جلالة الملك بأن يتعين إرجاع القيمة إلى الأحزاب في المشهد السياسي ، بعد فشل الإدارة وجيوب المقاومة طيلة عقدين من الزمن في محاربة الأحزاب السياسية والعمل على إحلال جمعيات المجتمع المدني محلها ، حيث نادى جلالته ب :»تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين،بتقوية دور الأحزاب السياسية،في نطاق تعددية حقيقية « مطالبا من جهة أولى لجنة إعداد مشروع الدستور ب:»الإصغاء والتشاور مع المنظمات الحزبية «، ومن جهة ثانية الأحزاب السياسية ذاتها بالانخراط «في حسن بلورة وتفعيل حكامة دستورية جيدة..ارتأينا ألا يقتصر دورها على تقديم تصورات أمام لجنتكم الموقرة، وإنما أن تكون مشاركتها موصولة في هذا الإصلاح الهيكلي، من بدايته إلى نهايته. «، وهي انتفاضة ملكية ضد المحيط القريب والبعيد من الحاقدين على الأحزاب السياسية وخاصة الأحزاب الديموقراطية التي تراكم تجربة وطنية وتاريخية بجانب العرش مرة بالنصح والتأييد ومرة بالمعارضة والتوكيد إن جلالة الملك وهو يتجاوب مع مطالب الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني بالعهد الدستوري الملتزم به ، يبقى من باب التأكيد لجلالته أن المواطنين إذ استبشروا خيرا بالخطاب الملكي السامي ، لم يفهموا جيدا بعض مضامين الخطاب ، نظرا لعامل الجهل والأمية وضعف التكوين السياسي ، حيث لا يزالون يواصلون المناداة بتحقيق مطالبهم الحثيثة الاقتصادية والاجتماعية ، غير واعين بأن مدخل كل ذلك هو في الإصلاح الديموقراطي للبلاد ، حيث لا يزال المواطن العادي يلح على أن يبادر جلالته إلى إصدار قرارات جريئة اقتصاديا واجتماعيا ، يكون من شأنها التخفيف من مستوى الغلاء وتدهور قدرتهم الشرائية والبطالة المتفشية بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، وهذا ما تنبه إليه جلالة الملك بالإعلان بأن :» إطلاقنا اليوم، لورش الإصلاح الدستوري، يعد خطوة أساسية، في مسار ترسيخ نموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز، سنعمل على تعزيزها بمواصلة النهوض بالإصلاح الشامل ، السياسي والاقتصادي والتنموي، والاجتماعي والثقافي ; في حرص على قيام كل المؤسسات والهيآت بالدور المنوط بها ، على الوجه الأكمل، والتزام بالحكامة الجيدة،وبترسيخ العدالة الاجتماعية ، وتعزيز مقومات المواطنة الكريمة.» وفي الأخير لا بأس من الإعلان بأن ثمة نقط بياض غير واضحة حينما أعلن جلالته بأن على اللجنة الوطنية المعدة لمشروع الدستور:» أن ترفع إلى نظرنا السامي نتائج أعمالها،في غضون شهر يونيو المقبل»، وهو ما يبدو من الصعب إحقاقه نظرا للحيز الزمني الضيق وللوقت اللازم تركه لمختلف الأحزاب من أجل عقد اجتماعات أجهزتها العليا و التقريرية الوطنية، وخاصة بعد تأكيد جلالة الملك على ضرورة فتح نقاش وطني محلي وإقليمي ووطني في موضوع الإصلاح الدستوري والسياسي، مما يتطلب وقتا أطول، لكون هذا الدستور الجديد سيطول أمده لمعرفة نواقصه الميدانية ، أي سيدوم عقدا أوعقدين آخرين إلى حدود سنة 2025 أو 2030 لإصلاح اختلالاته فيما بعد، ونظرا لقوة وتأثير القوى المضادة للتغيير بالبلاد ختم أمير المؤمنين خطابه بالآية الكريمة :» إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت،وما توفيقي إلا بالله،عليه توكلت وإليه أنيب».