غادر بلده في أول شبابه، ليلتحق بأعماله في إفريقيا حيث يشتغلون بالتجارة ابتدأ معهم متدربا، ثم شريكا وسرعان ما ظهرت نباهته، فلم يكتف ببلد، بل تنقل بين الدول المجاورة، يروج سلع المغرب هنا وهناك فاكتسب خبرة وزبائن، وتعلم لغة الشعب، وفتح متجرا له مستقلا بتجارته، واشتهر بين التجار المغاربة، بنشاطه ومروءته. لم ينس أهله وبلده، فكان يزورهم كل سنة، فتكون عودته أكبر مناسبة لجمع العائلة، وإدخال السرور على كل أفرادها. وأخيرا، قرر أن يحج، ثم يعود نهائيا إلى بلده، ليستقر بعد غربة طال أمدها. عاد الحاج أحمد باسم جديد، وثروة محترمة، فاشترى دارا جميلة وفي حي جديد، يسكنه أمثاله من علية القوم. وبدأ يهيء لتجارة يروج فيها ثروته. وتناقلت الألسن في المدينة خبر التاجر الذي عاد من إفريقيا بخير كثير، وقلب كبير، فقصده المحتاجون، وتقرب منه المتملقون، وألسنة الناس تنطق بالخير مع الاحسان، وينطقها الحسد بالسوء من القول. وفي صباح هذا اليوم، نزل الحاج إلى سوق المدينة ليشتري ما يحتاجه، حيث وجد الحوانيت كأسواق المدن القديمة، مصطفة على اليمين واليسار، وبينها يقعد على الأرض باعة الدجاج والبيض والثوم وغيرها. دخل الحاج السوق، وانطلق يتفرس في معروضات الخضر واللحم والفواكه، فالتقطت أذنه حوارا جرى بين بائع البيض وبائع الدجاج، قال الأول: أتعرف هذا الرجل، إنه الحاج أحمد «س»، رجع من السينغال ومعه ثروة كبيرة ومليون من الفرنك. اندهش الحاج لما سمع، فلم يكن يتصور أن تصل سمعته الى هذا السوق، ويتحدث بخبره بائع البيض، وصدمه أكثر، مبلغ مليون فرنك، بالكمال والتمام، ذلك أنه مبلغ خيالي في ذلك الوقت، لا يتوفر إلا في ميزانية الدولة. تابع سيره، والكلمة الحوار رقم ( المليون) تتردد في صدره غمة وألما. وعند نهاية السوق لم يعجبه شيء، فلم يشتر شيئا، وإنما عاد أدراجه مجانبا الطريق حتى حاذى سلة البيض فدفعها برجله، فانكفأت السلة، وتشتت البيض مع منحدر الطريق، بين مكسور ومرضوض، فقام صاحبه مجزوعا مما حصل، فهاج في وجه الحاج أحمد، ما هذا ياسي الحاج، ألم تر سلتي؟ شتت بيضي، وأضعت رزقي؟ وبهدوء أجابه: اسمح لي ، لم أقصد وإنما تعثرت في سلتك، والآن، لا عليك، سأعوضك عن بيضك؟ كم كان في السلة من البيض؟ تلعثم بائع البيض، ولم يستطع أن يحدد عددا، فانفجر الحاج أحمد: عجيب أمرك، هذا بيضك، ورزقك الذي تتعيش منه، ولم تعرف عدده، كيف تتبعتني من السينغال، وأحصيت ثروتي، وعرفت أنها مليون فرنك، بالكمال والتمام؟ غلب الحياء بائع البيض، فانحنى يعتذر ويريد تقبيل يد الحاج أحمد، فسحب هذا يده، بل فجر غيظه على الرجل: إنني لا أملك مليونا ولا نصف ولا حتى ربعه، وإنما أنا رجل تعب من الغربة، فأردت أن أرجع الى بلدي (أعيش بين أهلي وقومي بين راحة وسعادة، وها أنتم تكدرون على الهدوء النفسي الذي جئت أنشده بينكم تتبعونني بأعينكم وألسنة السوء.