بعد فترة انبهار أولى بالمنظر الخلاب للمدرسة التي توجد بين أشجار الأركان والزيتون، وبعد أن غادرنا التعب، خرجت ومصطفى لنتجول بجوانبها، فجأة تبين لي ان لا علاقة للمكان في المدرسة سوى الاسم: قسم لازال في طور البناء، قسم آخر مطلي بجير أبيض، ساحة تشقها طريق القرويين بقضاء مآربهم، فيما سكن المعلمين يبقى نقطة الضوء الوحيدة في مكان مقارنة مع بيوت القرويين البسيطة والواطئة جدا حيث من الممكن ألا تدخلها إلا منحني الدهر. بعد لحظة الانبهار الأول بدأت فترة اليأس والحيرة، ووجدت الفرصة مواتية لأتذكر ما كان بعض أساتذة المركز مشكورين يهيؤوننا لأجله، وكل وصاياهم قفزت إلى ذهني كما تنط أرنب مذعورة أمام قناص، وصايا ظلت تشغل فكري وكل ما حاولت نسيانها تنبعث في وضع أكثر حدة وجدة، لتتجه إلى مكان معين في دماغي، لدرجة أنها كانت في بعض الأحيان تفعل عكس ما يراد منها، ومن ضمن اهم وصاياهم لازلت أتذكر تلك الوصية التي كنا نقابلها بالكثير من القهقهة: - إياكم والعبث مع فتيات الدوار. وصية كانت تتردد على لسان أكثر من أستاذ، وفعلا وبعد التجربة المتواضعة تبين أن جل من لم يفعل بما أوصاه به شيوخه سقط في فخ لم يجد منه فكاكا حتى اليوم، فإما تزوج زواجا مفروضا عليه حسب حكم القوي، وإما قضى أياما إن لم نقل شهورا جيئة وذهابا بين مركز الدرك بالقرية ومدرسته ومع ما يصاحب ذلك من مساس لكبريائه، وأخلاقه. حل المساء، أوقد مصطفى شمعتين، وشغل مذياعه الصغير على نغمات «بارد وسخون يا هوى» للمرحوم محمد الحياني. وإذ بالخنافس تتجول ببهو البيت تنشد البرودة بعدما حولنا المنزل إلى مسبح اتقاءا لحرارة النهار التي احتفظ بها البناء المفكك. وفيما حاولت إبعاد الخنافيس والرتيلاء خاطبني مصطفى ضاحكا: «دعها إنها تنشد لقاء حميميا بعيدا عن إزعاج كائنات أخرى أكثر قوة منها!» عجبتني فكرته فتركتها وحالها، إلا أن غالبني النوم. أيقضنا صباحا ضجيج متعلمين صغارا حلو بالمدرسة باكرا، بعد أن سمعوا عن قدوم «المعلمين الجداد» فتحت الباب لأستنشق بعض الهواء النقي وإذ بهم يلتفتون حولي مقبلين وجهي ويدي، راقتني براءتهم وعيونهم المتلهفة لمعرفة الجديد، فيما آخرون تبين فيما بعد انه أول يوم لهم بالمدرسة منزوين تحت شجرة الزيتون مع أحد أقربائهم. أيقظت مصطفى وخرجنا دون أن ننتظر الثامنة صباحا، فلا «حساب» للوقت هنا إذ يمكن أن تشتغل أكثر من زمن الحصص المتخصصة لك تجزية للوقت وحبا لهؤلاء الصغار. مر اليوم الأول دون جديد يذكر سوى أول «اصطدام» لمصطفى مع أحد سكان الدوار، فما كاد مصطفى يشعل سيجارة حتى بدت علامات الدهشة على شخص كنت أحدثه حول تسجيل ابنه، وبدأ يتأمل صديقي وهو ينفث الدخان في الأعلى، ولم يتمالك هذا القروي نفسه إذ تحركت شفتاه قبل ان يصل كلامه إلى مسامعي: - السيجارة تقتل حاول الابتعاد عنها يا بني، إنها مضرة ولا نفع يرجى من وراء تدخينها. مصطفى كان مزاجيا بعض الشيء، رمقه بنظرة أصابت القروي إصابة مميتة حسب ما أكده لنا بعد مرور فترة من الزمن، وإذ بالرجل يحول نظره إلي ويسألني عن موعد الدخول الفعلي، فيما السيجارة زادت تآكلا بين شفتي مصطفى الذي تمتم على مسمع منا: «يا الله ابدينا ، الله يستر وصافي». ركن خاص بذكريات رجال ونساء التعليم : اللقاء الأول مع التلاميذ، العلاقات مع محيط المؤسسة التعليمية، العلاقة بالرؤساء والزملاء، طرائف وقعت خلال الحياة المهنية وغيرها من الذكريات... كاتبونا عبر البريد الالكتروني [email protected]