ربما، ليست هناك شخصية عامة في العالم الجديد حظيت بالشهرة والتأثير الواسع النفوذ على كل مجريات الحياة الأمريكية مثلما حصل مع الرئيس الأسبق، محرر العبيد، أبراهام لنكولن . فالرجل يعد معلما بارزا ورجل الدولة الوحيد الذي أضحت قصة حياته مبعث إلهام ومثار اطلاع من لدن الأمريكيين. حتى أصبحت حكايته رواية مألوفة يحفظها كل الناس. كيف لا وهو نموذج الرجل العصامي الذي صنع نفسه بنفسه لينهض من بدايات مجهولة وأوساط مغمورة كي يرتقي سدة الرئاسة، وليظل اسمه محضورا في ذاكرة الأمريكيين وخيالهم. من كوخ مبني من جذوع الأشجار إلى البيت الأبيض ومع أن عامة الأمريكيين يعرفون أن سيرة رئيسهم السادس عشر أصبحت أسطورة أكثر منها سيرة حياة، فإن الخطوط العريضة لهذه القصة هي في معظمها حقائق تاريخية. ولد لنكولن في العام 1809 في كوخ مبني من جذوع الأشجار لأبوين متواضعين لم ينالا حظهما من التعليم. ونشأ في مستوطنة بين الغابات في منطقة تكاد أن تكون برية. وهناك وهو في السابعة من عمره، حمل فأسا وساعد والده في إزالة الأشجار لتنظيف بقعة الغابات البرية بقصد استصلاحها أرضا للزراعة، ثم انكب، بفضل ما أحرزه من بضعة أشهر في التعليم الرسمي على الدرس والتحصيل بجد منقطع النظير على تعليم نفسه، حيث عكف على كتب تشتمل على قواعد اللغة الإنجليزية وقدراً من الرياضيات مكنه من الاشتغال بالمسح الهندسي، كما اطلع على القانون وتمكن من الانتماء إلى ممارسة مهنة المحاماة وهو بعد لم يكمل عامه السابع والعشرين، وكان لاشك هو الذي أنقذ بعمله البطولي والدؤوب الولاياتالمتحدةالأمريكية من أشد وأحلك أزماتها، مخلصا البلاد من الانقسام والتشردم، وإليه يعود الفضل في القضاء على الرق.. العصامي الذي علم نفسه بنفسه منذ بداياته، كان لنكولن مختلفا عن سواه من الأقران، فعلى نقيضهم ، كان أبراهام شديد العناية والاهتمام بالكلمات والتعابير ومعانيها. حيث تعلم في سن مبكرة القراءة والكتابة ساعيا بجد وراء الكتب التي كان يقترضها من أصحابها، ويدون ملاحظاته عن ما يقرأ، وقد لاحظ أبوه وأترابه في سلوكه هذا تهربا من أداء واجباته في المزرعة وضربا من الكسل. غير أن لنكولن لاقى كل التشجيع والمؤازرة من لدى زوجة أبيه التي أسرت في ما بعد لشريكه في مهنة المحاماة «وليام إتش هيرندون» بأن الصبي، مع أنه لم يكن يرغب في العمل البدني، إلا أنه لم يكن كسولا، فقد كان مجداً في طلب المعرفة وعلى استعداد دائم لتحمل عنتها. ويتذكر كثيرون ممن عرفوه عن قرب أنه عندما كان شابا استطاع أن يحقق لنفسه شهر، لا بأس بها وبرز ككاتب مقال وكشاعر موهوب، وقد ثبت فيما بعد أن كتاباته لم تكن أقل أهمية عن أفعاله، فهي مازالت لحد اليوم، من بين أكثر الكتابات المألوفة والأعمق أثرا في الآدب الأمريكي برمته. وعندما غادر منزل أسرته خائضا غمار الحياة وهو ابن الثانية والعشرين، حط به المقام في قرية «نيوسالم» الصغيرة في ولاية «إلينوي»، حيث أمضى ست سنوات حافلة بالعمل والنشاط، ونظرا لمظهره غير الجذاب الخالي من حس الأناقة، فكثيرا ما كان مبعث سخرية، حتى أن البعض كان ينعته بالبلاهة وسوء الذوق في الملبس، لكنهم سرعان ما اكتشفوا فيه طاقات وإمكانات مميزة وقل نظيرها. فإلى جانب كونه كان ألمعي الذكاء، فقد كان واسع الاطلاع والمعرفة، وقد برز أيضا في المباريات الشعبية التي كانت تقام أحيانا كنوع من تزجية الوقت، في الركض والقفز ورمي الأثقال، وقد تمتع بقوةجسدية فائقة وكان مصارعا لايكاد يقهر. وعندما استدعيت الميلشيات (اكرس الوطني) لمحاربة الهنود في استدعيت الميلشيات (الحرس الوطني) لمحاربة الهنود في السنة الأولى من إقامته في «نيوسالم» اختير قائدا (كابتن) للسرية المحلية، ،وموازاة مع ذلك، واصل رحلته في التعلم وأظهر شغفا خاصا بالأدب، لاسيما أعمال شكسبير والشاعر الاسكتلندي روبرت بيرنز. المرة الوحيدة التي هزمني فيها الشعب عندما رشح لنكولن نفسه في الانتخابات قبل أن ينقضي العام الأول من استقراره في «نيوسالم» مرشحا لعضوية مجلس الولاية التشريعي، فشل في تحقيق ذلك معلقا: «إنها المرة الوحيدة التي هزمني فيها الشعب». غير أنه سرعان ما نجح بسهولة في الانتخابات التالية ليشغل عضوية المجلس أربع فترات متوالية، كل ذلك رغم أنه كان أصغر المشرعين سنا، وبدت جلية قدراته في الخطابة وحشد الجمهور. وفي الوقت الذي أقدم فيه لنكولن على الزواج إثر قصة حب عاصفة جمعته ب «ماري تود»، فقد امتنع عن خوض الانتخابات لعضوية خامسة في المجلس التشريعي للولاية، ولم يتوان عن الانضمام إلى جماعة حزب «الويغ» (حزب الأحرار المعارض لبريطانيا آنذاك) ومهاجمة الرئيس جيمس بولك لتحريضه على شن حرب غير دستورية وغير عادلة بهدف الاستيلاء على مزيد من الأراضي، وقد أثار هذا الموقف انتقادات شديدة له، حيث كانت أمريكا تخوض حربا ضد المكسيك وسط تأييد شعبي واسع.