هل نصدق أن آخر طفل ياباني سيولد سنة 2959، وبعدها لن تكون هناك أية ولادة، وستأخد أعداد اليابانيين طريقها نحو الانخفاض الى أن يعود الياباني مجرد حدث في تاريخ الانسانية. منطق التعامل مع الاحصائيات المتعلقة بوتيرة زيادات الولادات في هذا القطر المثير للإعجاب، تؤكد هذه الحقيقة العلمية، فمعدل استدامة الشعوب الذي يحدده الخبراء الديمغرافيون، يشترط نسبة ولادة لايجب أن تقل عن 2.1 طفل لكل امرأة، بيد أن هذا المعدل لايتجاوز 1.25 طفل لكل امرأة في اليابان، الظاهرة اليابانية ليست فريدة ولاوحيدة، بل نجد في دراسة قيمة نشرها الخبير الديمغرافي فليب لونغمان في العدد الأخير من مجلة (Foreign Policy) الأمريكية، أن طبيعة الاشكالية الديمغرافية تغيرت بل انقلبت إلى ضدها، فإذا كان كتاب (القنبلة السكانية) لصاحبه بول إرليك قد توقع منذ سنة 1968 أن سبعينيات وثمانينيات القرن الحالي ستشهد موت مآت الملايين من الناس بسبب الجوع الذي سيترتب عن نمو ديمغرافي غير مراقب، وقال إنهم سيموتون حتى وإن اعتمدت برامج سريعة للحيلولة دون ذلك، وخلف صدور الكتاب رجة قوية آنذاك، إلا أن هذه «المحرقة البشرية» لم تقع بذلك الحجم، فإن الذي حدث أن العالم أضحى منشغلا أكثر بظاهرة القلة المتواصلة للسكان، لأن فرضية المحرقة كانت مستندة على حجم طفرة الولادات في العالم، والمؤكد الآن أن هذه الطفرة تراجعت بشكل مرعب حقا، حيث انخفض المعدل العام للإنجاب في العالم من 2 بالمائة إبان صدور الكتاب الى 1 بالمائة حاليا. إن فليب لونغمان ينبه الى أن الذين توقعوا محرقة البشرية لم ينتبهوا إلى بعض العوامل الظرفية التي كانت وراء تلك الطفرة، من ضمنها أن المجتمعات الغربية خرجت منتشية بانتصارها في الحرب العالمية الثانية، لذلك كانت أكثر شعورا بالإطمئنان، وهذا ما يفسر الازدياد المهول في أعداد سكان الولاياتالمتحدة والدول الغربية والاتحاد السوفياتي سابقا، ولا يتردد بعض الظرفاء في الاشارة إلى أن اكتساح شاشات التلفزة لغرف النوم في العالم جعل الزوجين منشغلين بالبرامج التلفزية الجيدة أكثر من انشغالهما بشيء آخر. فليب لونغمان يتحدث عن معادلة 1 2 4، وهي سهلة الفهم والاستيعاب، ذلك أن انخفاض معدل الإنجاب لدى الأسر إلى طفل واحد سيجعل في المستقبل المنظور الشخص الواحد يعيل أبوين وأربعة أجداد، ثم إن ظاهرة إنجاب طفل واحد لكل أسرة سيترتب عنه معارضة شعبية كبيرة للتجنيد وللحروب، فالأسرة ليست مستعدة على كل حال للتضحية بفلذة كبدها الوحيدة، كما أن المجتمع البشري الذي هو الآن بصدد البروز بسبب تحديد النسل سيكون أكثر جنوحا نحو السلم والأمن، لأنه ببساطة سيكون مجتمعا بشريا شائخا. والشيوخ ليسوا قادرين على الاندفاع وممارسة العنف. لا تستسلموا لهذا الجزء الأخضر من البساط، بل انتظروا الجزء القاحل، ذلك أن عالم الشيوخ هذا سينحو نحو الفقر والحاجة، فتحديد النسل يضعف القدرة على العمل ويعدم اليد العاملة النشيطة القادرة على الإنتاج، الآن نفهم لماذا تخصص حكومات الدول الاسكندنافية تحفيزات مالية ومادية مغرية للتشجيع على الإنجاب تصل حد تمتيع الأم بعطلة سنة كاملة والأب بعطلة تسعة أشهر، مع إمكانية استعمال الأم لجزء كبير من العطلة المخصصة للأب، والآن نفهم أسباب قلق حكومة دولة نابغة في المجال الاقتصادي كسنغافورة التي لم تعد تقتصر على تقديم منحة للأم لإنجابها الطفل الأول والثاني بقيمة 3000 دولار و 4500 دولار للطفل الثالث والرابع، وعلى إجازات أمومة طويلة الأمد مدفوعة الأجر، بل إنها تقدمت كثيرا بأن قررت رعاية لقاءات تعارف بين الرجال والنساء. ويتنبأ فليب لونغمان أن يضطر العالم إلى اعتماد ما يسميه «بمسار طالبان» الذي يقضي بإحكام إغلاق الأبواب على المرأة في البيت ليقتصر دورها على الإنجاب وتربية الأبناء ورعايتهم. لا أعتقد أننا ننتبه إلى مثل هذه الإشكاليات المصيرية في أقطارنا العربية المنشغلة أولا بضمان لقمة العيش لجحافل الموجودين الآن، ومنهمكين في صياغة سياسات التقليل من الجائعين، نحن تماما نعيش الزمن الذي كتب فيه بول إرليك كتابه الشهير (القنبلة السكانية) سنة 1968. وحتى إذ جنحنا نحو الاهتمام بالظاهرة المستحدثة المرتبطة باستدامة البشر في الأرض، فإننا نهتم بالمحافظة على جنسنا خوفا من أن يذوب وسط النازحين من العمال الأجانب، فنمنع التزاوج منهم ونرفض تجنيسهم.. بما يوحي بالاشتغال الخطإ على قضية قد تكون عادلة. أخاف أن أحدد سقفا زمنيا يمكن أن يولد فيه آخر طفل عربي، كما سيحدث بالنسبة لليابان.