تبقى وزارة الخارجية إحدى الوزارات السيادية المنعزلة، التي تشتغل في فضاء مغلق، تدبر قضايانا الوطنية والدولية بشكل سري فيما بين أطرها وموظفيها السامين وبمنطق تقليدي متجاوز، علما أن تدبيرها يغلب التركيز فيه على القضايا الإدارية الروتينية وعلى الدبلوماسية المناسباتية المعتمدة على تبادل الوفود والزيارات الودية ومنطق حضور المؤتمرات البروتوكولية والمنتديات الدولية ودبلوماسية ردود الأفعال، عوض الدبلوماسية المتفاعلة إيجابا مع التحولات الخارجية، والموظفة لمؤهلاتنا التاريخية والحضارية والجغرافية وتجربتنا الدستورية والسياسية و الحقوقية ،دون إغفال نهج دبلوماسية هجومية وخاصة في القضايا الوطنية الحيوية.. ويلمس الرأي العام الوطني بما فيه الفاعلون السياسيون والبرلمانيون والنقابيون والجمعويون أن وزارة الخارجية طالما انغلقت على نفسها، دون إشراك الفاعلين الأساسيين أعلاه في صياغة رؤية استراتيجية وطنية مشتركة، إذ تحتكر مختلف المعطيات الواردة عليها من السفارات والقنصليات المغربية بالخارج ومن الأجهزة الأمنية المختصة، وتبقى بهذا الاحتكار المعلوماتي هي العارفة بخبايا الأمور والقادرة على إمداد مختلف أنواع الدبلوماسيات الموازية، برلمانية كانت أو حزبية أو نقابية أو جمعوية بالمعلومات اللازمة والمناسبة لكل حدث دبلوماسي طارئ،بل إن هذه الدبلوماسية البرلمانية الموازية وغيرها غالبا ما تعتمد على إمكاناتها المحدودة في ترحالها بالخارج دفاعا على قضيتنا الوطنية دون دعم من وزارة الخارجية، وهو ما يؤثر سلبا على كسب الرهان من طرف برلمانيينا وأحزابنا وجمعياتنا بالخارج. لقد انتقد جلالة الملك في أكثر من مناسبة في السنوات الأخيرة دبلوماسيتنا المغربية، بإلحاحه على «دبلوماسية جريئة ونافذة» دبلوماسية «تعتمد الحوار والتضامن والشراكة» ، مما يتطلب ضرورة مراجعة منهجية أسلوبها التقليدي من خلال نهج دبلوماسية القرب والتواصل الدائم عوض دبلوماسية المناسبات والدبلوماسية متعددة الأقطاب وكذا الدبلوماسية الانفتاحية والتشاورية والعمل الموازي مع الدبلوماسية الموازية ، وهو ما لا تزال وزارة الخارجية متعثرة فيه، إذ لم تجد نفسها مضطرة إلى تغيير خطة عملها مؤخرا إلا بعد استنتاج فشل مقاربتها التقليدية مؤخرا للعديد من القضايا كقضية وحدتنا الترابية مثلا، حينما عملت على الاستنجاد بالأحزاب الوطنية والمركزيات النقابية والجمعوية من أجل التعبئة لمسيرة شعبية عارمة من عيار المسيرة البيضاوية المليونية، وحث الدبلوماسية البرلمانية والحزبية على الارتحال الفوري إلى الخارج لتعبئة للقوى الدولية الصديقة والشقيقة من أجل إقناعها بصوابية الطرح المغربي بهذا الشأن وخاصة على مستوى الاتحاد الأوربي المشاكس. لقد أبان أسلوب احتكار وزارة الخارجية للعديد من الملفات الحيوية واعتمادها على قراراتها الانفرادية عن ضعف واضح في رؤيتها الدبلوماسية، ويمكن أن نستحضر على سبيل المثال محطات هامة أبانت عن فشلها في معالجة العديد من القضايا كحالات :الكرسي الشاغر بمنظمة الاتحاد الإفريقي ،واستدعاء سفيرنا من دكار ضدا على الموقف المناوئ للحزب الاشتراكي سنة 2007، وقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران سنة 2009 ، وقرار إغلاق سفارتنا بفنزويلا في كاركاس سنة 2009 ، وأزمة «أمينتو حيدر»، وقضية احتفال البوليساريو بالاستقلال الوهمي في تفاريتي، وقضية التعامل مع موقف الحزب الشعبي الإسباني، وسوء التدبير الدولي لقضية أحداث العيون بإكديم إزيك، وضعف التعامل مع امتياز «الوضع المتقدم» مع الاتحاد الأوربي منذ خريف 2008، وضعف التنسيق مع المجلس الاستشاري للجالية المغربية بالخارج في القضايا العالقة للجالية المغربية، وقضية تهجير الأفارقة غير الشرعيين، والاجتهاد في إتقان دور شرطي حدود جنوب أوربا، وقضية الاحتكاك الدبلوماسي مع قطر بشأن قناة الجزيرة في أكثر من مناسبة، ورد فعل دبلوماسيتنا بشأن أزمة جزيرة «ليلى»، والأزمة المغربية الليبية بشأن حضور البوليساريو في احتفالات ذكرى الفاتح منذ سنتين، والتصرف الارتجالي بشأن دعم ضحايا فلسطين في أحداث غزة، وفشل الدبلوماسية المغربية في تقوية تواجدها بدول الخليج، إلى غير ذلك من القضايا الداخلية كسوء التنسيق مع بعض القطاعات الحكومية ذات القواسم المشتركة وعدم انفتاح وزارة الخارجية على الأطر الوطنية الكفأة في الالتحاق بالوزارة وتجاهل مئات التقارير الواردة يوميا من سفاراتنا وقنصلياتنا بالخارج وعدم دعم هذه السفارات بما يلزم من الدعم المالي واللوجستيكي والبشري وضعف وسائل المراقبة لهذه السفارات والقنصليات إلخ.... إن الهزات التي تتعرض لها قضية الوحدة الترابية من حين لآخر والتصعيد الدبلوماسي الذي يخوضه الخصوم بمهنية بترودولارية قوية كان من شأنه تعرية أوراق التوت التي تغطي دبلوماسيتنا الهشة، مما أصبح من الضروري معه اليوم الإسراع إلى تدخل قوي لتصحيح أوضاع دبلوماسيتنا الضعيفة تفاديا لمخلفات منهجيتها البطيئة على قضية وحدتنا الترابية وغيرها من القضايا الحيوية ، دون إغفال فتح نقاش وطني تشارك فيها كافة الفعاليات العلمية والمهنية والإدارية المعنية استنهاضا لهذا الورش المجتمعي الحيوي ، مع ضرورة الإشارة في الأخير إلى أن تأخر الدولة في استكمال الإصلاحات الدستورية والسياسية يؤثر بشكل مباشر على دبلوماسيتنا المغربية، حيث أن امتياز الوضع المتقدم مع أوربا مثلا لن يقوى المغرب على الاستفادة منه ما لم يعمل على إصلاح واجهتين أساسيتين وهما: تحسين وضعية حقوق الإنسان على مختلف المستويات وإصلاح ورش القضاء.