مباشرة بعد التعيين الملكي لعدد من العمّال والوُلاة، تم تنصيب هؤلاء في مواقعهم الجديدة ليحلوا محل زملاء لهم كانوا بالأمس القريب يتربعون على كرسي السلطة الأولى في أقاليمهم وجهاتهم. وفي كل مرة تتم فيها هذه الحركة الانتقالية ، يظل السكان يترقبون ما سيأتي به العامل أو الوالي الجديد من جديد. ويظلون ينتظرون. وهناك عمالات وأقاليم ظلت تنتظر حدوث التغيير المنشود منذ حلول العامل أو الوالي إلى حين تنقيله إلى جهة أخرى أو إعفائه من مهامه.. الملاحَظ أن بعض العمّال والولاة بمجرد ما يلتحق بمكتبه ، يساوره التفكير في التغيير، ليس تغيير الأوضاع بالمدينة أو الجهة التي يشرف عليها ، بل تغيير أثاث وتجهيزات مكتبه . وهكذا يشرع في تشغيل عدة موظفين وأعوان ، ويُشْغِل العمالة أو الولاية بأكملها من أجل استبدال ستارات النوافذ، ومقابض الأبواب، والكراسي والأرائك، والزرابي، والهواتف ، والإنارة... مع ما يتطلب ذلك من وقت وجهد كان من الأحسن صرفه في اهتمامات أخرى أجدى وأنفع. بعض العمال والولاة مَن لا يهدأ له بال حتى يستبدل مدير ديوانه بمدير آخر يكون مِلْءَ عينيه وطَوْعَ يديه... بعد ذلك يدخل في متاهات البحث عن الموظفين الخدومين. قبل التعرف على أصحاب الجاه والمال في المنطقة التي تقع تحت نفوذه. بعض العمال والولاة يظل قابعا في مكتبه بدعوى الانشغال بدراسة الملفات، وترؤُس الاجتماعات التي لا تنتهي، وما تبقَّى من الوقت لاستقبالات معدودة ومحددة سَلَفاً وبكل عناية من طرف مدير ديوان يتميز بحاسة شمٍّ ونظر تسعفه في التعامل مع الوافدين الطالبين رؤية السيد العامل أو الوالي. وهنا تظهر مهارة المسؤول عن الديوان في إبعاد غيرالمرغوب فيهم ب«الفن» ، وإيهامهم بمواعيد أخرى لن يأتي يومها ولا ساعتها... إلى حين انتقال العامل أو الوالي إلى جهة أخرى.. أما استقبال المواطنين، فتلك حكاية أخرى لا يؤمن بها إلا مَن رحم ربّك. هناك عمال وولاة أعربوا عن حسن نيتهم واستعدادهم لفتح باب مكتبهم لعموم المواطنين ، فخصصوا يوما معينا للاستقبالات. وبالطبع، أصبح الإقبال كبيرا بالرغم من تدخلات من يسمّون أنفسهم ب«المساعدين الأقربين» للسيد العامل من أجل إبعاد أكبر عدد ممكن من المواطنين الوافدين .. إلى أن تم إقناع السيد العامل بالتخلي عن هذه الفكرة، فاستراح «المساعدون الأقربون» وأراحوا معهم المسؤول عنهم. أتعجب لعامل أو والٍ أدّى القَسَم بأغلظ الأَيْمان من أجل خدمة البلاد والعباد أمام جلالة الملك ، وتجده لا يغادر مكتبه الفخم، ولا يستمع للمواطن ، ولا ينصت لنبض الشارع؛ وأَنَّى له هذا وهو لا يعرف جغرافية المنطقة التي وُضِعت تحت إشرافه ومسؤوليته، ولا يكلف نفسه عناء وكأنه سيمشي على رجليه زيارة الجماعات التابعة لنفوذ وتراب الإقليم ، والوقوف على حاجياتها. وقد يقع ما يقع من المشاكل في هذه الجماعة أو تلك ، والعامل أو الوالي قابع في مكتبه يكتفي ب«المتابعة» عبر التقارير التي تصل إليه. لا.. لا أحد يريد هذا النوع من العمّال والولاة الذين يظهر أنهم لم يستوعبوا جيدا التعليمات الملكية بخصوص المفهوم الجديد للسلطة ، أو الخروج للتعرف عن قرب على المشاكل والقضايا ، والاستماع لشكاوى وتظلمات المواطنين... في حين يرى المواطن ملك البلاد وهو يجول في طول البلاد وعرضها ، يصل إلى المناطق النائية في المغرب العميق (التي لا يصلها العامل ولا الوالي) ، ويقترب من سكانها ، ويتبادل معهم السلام ، ويستفسرهم عن الأحوال.. لا نطلب من العامل أو الوالي مغادرة مكتبه، وأن يجلس في المقاهي، ويمشي في الأسواق وإنْ كان هذا شيئا عاديا تماما، أو فتح مكتبه للناس ، أو ترك مهامه والرّكون للاستماع إلى الخواء الخاوي.. المطلوب الاّ يفتح مكتبه بل صدره؛ والمطلوب ألاّ يعطي شيئا (العاطي الله)، بل يساهم في العطاء للإقليم أو الجهة المُؤْتَمَن عليها بقَسَمٍ غليظ.. وما أصعب القسم الغليظ. حمادي الغاري [email protected]