تم تعريف الإيقاع في الحلقة الأولى. وتمت الإشارة في الثانية إلى أن الإيقاع يتعدى تنظيمَ المدرَكات الحسية والتصورية في الذهن (من مسموعات ومرئيات وحَرَكيات ذوات اطرادٍ معين، مقادير وأعداد وهيئات ذوات تناسبات مطردة) إلى تنظيم وضبط العمل والسلوك في حظيرة الجماعة والمجتمع حسب قوالب دورية مطردة معينة. وإذ يضبِط المجتمعُ كافةَ أنشطته المادية والروحية على وتيرة إيقاعٍ متراكب من إيقاعات محيطه الكوني المباشر )حركتي الأرض والقمر(، كما تم بيانه، فإن الفرد ينخرط، بالطبع، في الإيقاع الاجتماعي العام الذي تضبطه الرزنامات الإدارية، والدينية، والعرفية الثقافية؛ لكنه يُدرِج أيضا داخل ذلك الإيقاع العام إيقاعَه الخاص، الذي يقوم أساسا على الدورة اليومية المهيكلَةِ اليوم هيكلةً اجتماعية إدراية يُعبَّر عن لحظاتها آليا بتعاقب 24 ساعة، وتنتظِمُ على أساس ساعاتها مختلفُ أوجه النشاط الاجتماعي (توقيت العمل، وسائل النقل، الخ). ثم هناك دورتين أخريين، الأسبوع والشهر الإداريان يرتبط بهما إيقاع بعض الطقوس والسلوكات الخاصة بالنسبة لعدد متزايد من أفراد المجتمع ممن انخرطوا في العمل المؤسسي (وظيفة عمومية، قطاع خاص مهيكل). فعلى مستويات هذه الدورات الثلاث، وخصوصا الدورة اليومية، يتجلى إيقاع حياة الفرد من خلال دوريةِ فقراتِ عمله، ومعاملاته، وسلوكه، واستهلاكه، وعلاقاته الاجتماعية، وحتى نشاطاته الفكرية أو الفنية إذا ما اتخذ لنفسه من ذلك نصيبا. وقد أُطلق على الإيقاع في هذا المستوى لفظ "الروتين"، أي الرتابة. وقد سبق، في أول نص من نصوص هذا الركن، أن قيل بأن العادة والرتابة نمط ضروري للقيام بالأدوار وللانخراط في المنظومات والمؤسسات دون حاجة إلى إعادة ترتيب الأمور كلَّ صباح وكلَّ مساء، وأن مقاومة التغيير ثابت من ثوابت السلوك الاجتماعي للأفراد في المؤسسات على اختلاف مستوياتها. ف"رقصة" الفرد على إيقاعاته اليومية، والأسبوعية، والشهرية رقصة رتيبة. ومن خصائص الرتابة أنه كلما كانت مضبوطةَ الإيقاع كلما كانت أخفى على الإدراك، حتى إن الإيقاع الطويل الرتابة يعطل الإحساس إلى درجة جلب النوم كما عرفت ذلك مهدهِدات الأطفال منذ غابر العصور. ولذلك فبعضُ مظاهر رتابةِ السلوكِ اليومي لبعضِ الأشخاص يتأتّى إدراكها للآخرين بمقدارِ اختلافها عن إيقاعاتهم الخاصة؛ وذلك مثل الظرفيات المكانية والتوقيتية اليومية المميِّزة لتصرفاتِ الشخص المعين، وكذا أشكالِ تلك التصرفات الخاصة به، في البيت، ومقر العمل، وفي الشارع، والاختلاف إلى مرافق حُرة وأماكن معينة (مقهى، مسجد، سوق، نادي، زاوية، مقر حزبي أو نقابي، الخ.). فقد قيل مثلا بأن جيران الفيلسوف إيمانويل كانط كانوا يضبطون ساعاتهم بناء على مروره في أماكن معينة خلال فسحته اليومية. إلا أن هناك كثيرا من أوجه الإيقاع الرتيب في سلوك الأفراد مما يخفى على الإدراك. فلنقتصر هنا على نشاط التفكير. هل تَخضع لحظاتُ وظروفُ هذا النشاط بدوره لإيقاعات معينة؟ أين، ومتى وكيف تنبثق الأفكار الكبرى والصغرى، العمليّة والعلمية والفنية والتعاملية والسياسية والاستراتيجية، الخيرة منها والشريرة، في ذهن الفرد؟ هل صحيحٌ أن كل الأفكار تنبثق في الذهن أثناء جلسات إعمال الذهن في المكتب أو حول طاولة الاجتماع والتداول؟ أم أن للتفكير إيقاعياتٍ أخرى مستقلة عن الإيقاعات العُرفية والرسمية؟ في هذا الباب يقول نيتشه في شأن الكاتب الفرنسي، فلوبير، ما يلي: (أأنت تقول بأنه "لا يمكن صياغةُ أفكارِ الكتابة إلا والإنسانُ جالس "! لقد ضبطتُ طبيعتَك هذه المرة أيها العدَميّ. اِبقَ إذَن جالسا؛ فذلك بالضبط هو عينُ الإثم في حق الروح القدس. كَلاّ ! إن الأفكار التي تنبثق في الذهن أثناء المشي هي وحدَها ذات قيمةٍ حقيقية). الحقيقة أنه ،على العكس مما يُعمّمه قولُ فلوبير، يصرح كاتبٌ فرنسيّ آخر معاصرٌ لنا قائلا: "إن لِي قدرةً جدَّ ضعيفةٍ على التركيز. فأنا أحتاج كثيرا إلى التفكير وأنا أمشي أو في بداية الاستسلام للنوم". وبصفة عامة، فيما يتعلق بارتباط التفكير بإيقاعات حالات مختلفة، ومنها إيقاعُ فُسحة المشي اليومي، كان قد اشتهر روادُ مدرسة أثينا الأريسطية بتسمية البيريباتيطيقيين (Péripatéticiens) أي المشائين، نسبة إلى ما أُسنِد إلى رواد تلك المدرسة، من دأبهم على التفكير في المسائل الفلسفية والأخلاقية وهم يمشون عبر أروقة المدرسة. إنه "التفكير بالأرجل". فكم هي إذن، يا تُرى، فِكَرُ الخير أو الشر التي انبثقت في أذهان أصحابها، ليس خلال لحظةِ تركيزٍ من لحظات جلسات العمل الرسمي، ولكن خلال لحظة من لحظات الشرود، مع إيقاع فسحة من فسح المشي اليومي، عبر نفس الأمكنة، أو على نفس الرصيف، أو نفس المسالك بحديقة من الحدائق، أو في نفس مسلك للكَولف، أو في نفس الطريق المعتاد نحو المسجد أو نحو أي محجّ يومي للخير أو الشر؟ ثم إن هناك معالمُ إيقاعية أخرى كثيرةً خاصة بيومية الأشخاص. فهناك حلاقةُ الصباح عند الرجال، وهناك خلوةُ الحمّام عند الجنسين، ثم هناك حتى "بيتُ الراحة للجميع". ففي ما يتعلق بالحمّام، نعرف جميعا قصة َ صيحةِ "أوريكا" (eurêka) للفيزيائي أرشميدس، الذي قيل بأنه استنبط قانون طفوّ الأجسام أو رسوبها وهو يغطس نفسه في حوض الاستحمام، فخرج من الحمام على التو عاريا وهو يصيح "أوريكا، أوريكا"، أي "وجدتها، وجدتها". فكم هي الأفكار العلمية أو الفنية أو السياسية (الفاضلة أو الجهنمية) التي باغثت أصحابَها وهم متربعون في خلوة بيت الراحة، في إطار إيقاعهم اليومي الطبيعي؟ ثم كم هي الأفكار الخيرة أو الجهنمية التي تنبثق في أذهان أصحابها مُفسدةً عليهم خشوعهم في رتيب صلواتهم اليومية؟ وعلى كل حال، فإذا كانت أفكارُ الشر مردودةً ومُدانةً مبدئيا بقطع النظر عن ظروف انبثاقها في أذهان أصحابها، فإن من مزايا الألطاف الخيّرة أنْ ليست هناك نظريةٌ أخلاقيةٌ تُخضِع مقبوليةَ وتحبيذَ أيّ فكرة خيّرة لشعار: "مِن أين لكَ هذا؟"