هناك ذكريات كثيرة ما زلت أحتفظ بها, وأستحضرها, بين الفينة والأخرى, لأنها احتلت مكانة كبيرة في كل مرحلة من مراحل حياتي, في طفولتي, في شبابي, في دراستي, في عملي, في نشاطي الوطني, والسياسي, والدبلوماسي. هناك ذكريات خاصة اختزنها صدري, وقلبي, ووجداني, ربطتني, عبر عدة مراحل, بجلالة المغفور له الملك محمد الخامس, بداية مع تفتح مداركي, ومع أول خطواتي في العمل الوطني, كما كان الحال بالنسبة لأبناء جيلي, حينما كان ينادى عليه بالسلطان سيدي محمد بن يوسف, وختاما عندما شاءت الأقدار الإلهية أن أكون بجانبه, وأن أرتوي, عن قرب, من فيض شيمه وأخلاقه النبيلة, طيلة خمس سنوات, كانت من أعز مراحل حياتي. كانت,هذه, من الذكريات التي لم ولن يصيبها النسيان, لأنها متمكنة من وجداني, ولأنها تحمل أسمي معاني الوطنية, والإخلاص, والوفاء, والمحبة. غير أن تلك الأعوام الخمس, التي كان لي فيها الحظ, والشرف, في العمل بجانب ذلك الملك,الوطني الهمام طيب الله ثراه ، مضت كأنها طيف من خيال, أو كحبات عقد تناثرت ، وتبعثرت تاركة في وجداني وفي خاتمة المطاف, حسرة ما بعدها حسرة وذلك عندما وقع ما لم يكن في الحسبان وما لم أكن أتوقعه مما كان يخبؤه لي القدر. أتى اليوم الذي تجرعت فيه المرارة ولقيت فيه الأمرين لم أكن لأتصور ولا أن أتخيل ولا أن يدور في خلدي, أن يكون ذلك اليوم العاشر من شهر رمضان 1380 _ 26 فبراير 1961 ، من أقسي أيام حياتي, ومن أشد وطأة علي قلبي وجناني وأنا ما زلت في ريعان شبابي غير مبال بما كانت تخبئه الأقدار عني. ما زالت تلك الصورة التي خلفها ذلك اليوم في ذاكرتي ماثلة أمام عيني ومعبرة عن الصدمة التي أصابتني واحترقت بنارها قبل أن تلقي بلهيبها إلي ما وراء أسوار القصر الملكي لقد فجعت ذلك اليوم وأصبت بصدمة شديدة وأنا أتخطي أبواب القصر, في الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم غير مبال بما كان ينتظرني. أثار انتباهي أول الأمر ، وأنا أخترق ساحة القصر, منظر عدد من "المخازنية" بجلا لبهم وسلا همهم البيضاء, جالسين القرفصاء, ووجوههم مكفهرة, كأن عليها غبرة, توحي بقرب حدوث فاجعة. فازداد فزعي وهلعي وتسارعت دقات قلبي حتى كادت تخنقني وأنا أحث الخطى لأصل إلي مكان عيادة القصر حيث كان يخضع جلالة الملك محمد الخامس لعملية جراحية وصفت بأنها بسيطة للغاية. في تلك الأثناء ارتفعت الأصوات من كل مكان تأمر بإغلاق أبواب القصر الشيء الذي زاد من هواجسي, ومخاوفي ، وما أن وصلت إلي باب العيادة حتى وجدت نفسي أمام حدث مروع زاد في هد ما بقي من كياني, وكأن السماء انطبقت علي, وكدت أفقد صوابي, لولا أن تداركتني رحمة من الله تعالي, وأنا ألهج بذكر"لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, إنا لله وإنا إليه راجعون". لم أصدق في حينه ما سمعت من أنين ونحيب وما شاهدت ممن كانوا يتمرغون فوق الأرض من شدة لوعتهم وحزنهم ولولا حرج الموقف لكنت فعلت مثلهم لما كان يعتلج في صدري من لهيب الألم خرج الأطباء وعلي رأسهم المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب من داخل المصحة يعلنون وفاة جلالة الملك محمد الخامس اثر سكتة قلبية أثناء العملية الجراحية, التي أجريت له منذ بضع ساعات. لقد مات الملك محمد الخامس, واختطفته المنية, علي حين غرة ولم يمر علي اجتماعنا به سوى يوم واحد, كان أثناءه في أتم حيوية ولين جانب واهتمام فائق بشؤون البلاد, وترقب مليء بالآمال, لما كان يفكر في إنجازه, بعد خروجه من العملية الجراحية التي وصفت علي أنها بسيطة للغاية. كان من الصعب علي, جدا, أن أصدق أن ذلك الذي كان بالأمس في كامل الحيوية, قد فارقنا ولم يعد بيننا, وتمثلت الشاعر أبي الطيب المتنبي في قوله : طوي الجزيرة حتى جاءني خبر جزعت فيه بآمالي إلي الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي حقا, لقد كان جلالة الملك محمد الخامس, طيب الله ثراه, متعبا بسبب المجهود الذي بذله في اجتماعات القمة الإفريقية التي انعقدت بالدار البيضاء قبل بضعة أسابيع في 23يناير 1961, بحضور عدد من الرؤساء الأفارقة, علي رأسهم جمال عبد الناصر وأحمد سيكوتوري, والتي كانت نواة لمنظمة الوحدة الإفريقية. لكنه, علي كل حال, بقي, بعد ذلك, محتفظا بنشاطه المعهود مقبلا- كما ألمح بذلك في عدة مناسبات- علي القيام بتغيير في شكل الحكومة التي كان يرأسها والتي لم تأت بالنتائج التي كان يتوخاها. كان المصاب جللا ومن شدة وطأته بقيت في ذهول شارد الفكر إلي درجة أنني لم أشعر إلا وقد أخذت ضمن من كان بمصحة القصر, إلي مقر إقامة ولي العهد سمو الأمير مولاي الحسن. هنالك تمت- بعد شبه إفطار, مشحون بالحزن, والأسى, والدموع- مبايعة الأمير مولاي الحسن ملكا للمغرب, خلفا لوالده المنعم, وطبقا لإرادته, ولوثيقة البيعة التي وقعتها جميع الشخصيات المغربية الحاضرة. مازالت, صورة تلك اللحظة التاريخية, المأثرة, المليئة بالشجن, والأمل, ماثلة في ذهني, حاضرة في وجداني, تذكرني بالأخ المرحوم عبد الرحمان بن عبد العلي, وهو يرتمي علي, وأرتمي عليه, ونحن نجهش بالبكاء, والدموع تنهمر علي خدينا, كطفلين صغيرين, فقدا أعز ما كان لديهما. ما أفقت من ذهولي, وشبه غيبوبتي, إلا وأنا أتساءل, كيف تم وصولي إلي قٌصر ولي العهد, وأين تركت سيارتي. فلم أتذكر, إلا بعد حين, أنني تركتها بباب القصر, ولما عثرت عليها, وجدتها في أسوا حال, من كثرة ما تسلقت فوقها الحشود البشرية, التي علمت بخبر وفاة ملكها المحبوب, فلم يسعها, وأبواب القصر مغلقة, إلا أن تتحامل علي السيارات المتواجدة هناك. في الأيام التالية تمت مراسم جنازة الملك الراحل, طيب الله ثراه, في جو من الحزن العميق. ابتدأت بخروج الموكب الرسمي من القصر, حاملا جثمانه الطاهر يتقدمه المغفور له الملك الحسن الثاني وعدد من الشخصيات المغربية والأجنبية علي رأسها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة, والعاهل الأردني, الملك حسين, رحمهما الله. اخترق الموكب, شوارع الرباط, ابتداء من شارع "التواركة", متوجها إلي مسجد حسان, وسط حشود من البشر, اصطفت علي جوانب الطرقات, وتسلقت الأشجار, والأعمدة الكهربائية وكأنها بحر لجي تتلاطم فيه الأمواج. ارتفعت أصوات الجماهير, من كل مكان, بالبكاء, والنحيب, والعويل, تندب فقدان ملكها المفدى, الذي ضحي, طيلة حياته, بالغالي والنفيس, في سبيل وطنه, وشعبه, وهي التي كانت, قبل خمس سنوات, تستقبله بالهتافات, والتهليل, والزغاريد, وبجميع مظاهر الفرح, والاغتباط, والسرور, بعد عودته من منفاه, بكورسيكا, ومدغشقر, مظفرا إلي وطنه, وعرشه, ومبشرا ببزوغ عهد الحرية, والاستقلال, وهو يتلو قول الله عز وجل, "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور". بمسجد حسان أقيمت صلاة العصر ثم الصلاة علي جثمان جلالة الملك المغفور له محمد الخامس, بحضور جمهور غفير, في جو مفعم بالخشوع, والاستسلام لقضاء الله وقدره. ثم رفعت أكف الضراعة بالدعاء لجلالته بالمغفرة, والرضوان, ولخلفه جلالة الملك الحسن الثاني بالنصر والتمكين. عدنا في نفس الموكب, وعلي امتداد شوارع الرباط المؤدية إلي التواركة, وسط الجماهير الغفيرة, التي أبت إلا أن تودع ملكها المفدى الوداع الأخير, وهي تهلل, وتكبر, مما أذكي في نفسي, وفي العديد ممن كانوا في الموكب, كثيرا من الشجن, والحزن, والعبرات. في نهاية المطاف, وصل الموكب, المحاط بحفظ الله ورعايته, إلي ضريح مولاي الحسن الأول, بجوار القصر الملكي, حيث تمت مراسيم دفن جثمان الملك الراحل, في انتظار بناء الضريح الذي تقرر أن يقام بمسجد حسان, لينقل إليه فيما بعد. كانت لحظات مؤثرة, ومثيرة للشجن, والعبرات, تلك التي عشتها وأنا أري ذلك الملك الصالح يوضع جثمانه الطاهر في قبره, ويوارى عليه التراب, والأصوات مرتفعة بالتكبير, والدعاء له بالمغفرة, والرضوان, والجنة, بجوار جده المصطفي, صلوات الله عليه وسلامه. في الثلاث أيام التالية, أقيمت في فجر كل يوم بالضريح صلوات "صبوح القبور" بحضور المغفور له الملك الحسن الثاني, تليت, أثناءها, آيات من الذكر الحكيم, ودعوات مثيرة للشجن علي روح فقيد العروبة, والإسلام والوطن كانت أياما مضنية مشحونة باللوعة والشجن تذكر كل واحد منا, بالفاجعة, التي جاءت علي حين غرة, والتي تركت في نفسي, وفي نفس كل فرد من أفراد الشعب, الذي أحبه, وضحى بالنفس والنفيس في سبيله, كثيرا من الآلام والأحزان. بل ولقد كان تأثير ذلك المصاب الجلل , علي, وعلي بعض من رفاقي, مضاعفا, وأشد وطأة, وأشد مضاضة, وذلك بحكم الوضعية الخاصة التي تبوأنا ها, طيلة عقود, بالقرب الحميم, والعمل جنبا إلي جنب, مع جلالة الملك الراحل. لقد قضيت, شخصيا, بجانب جلالة الملك محمد الخامس, طيب الله ثراه, وفي خدمته, كعضو ثم كرئيس للديوان الملكي, خمس سنوات اثر عودته من منفاه إلي أن لبي داعي ربه, سنوات كانت من أهم مراحل شبابي, وأغناها, منحني, أثناءها, عطفه, وتقديره, ورضاه, وكانت لي, في آن واحد, مدرسة, تعلمت فيها الكثير, واكتسبت فيها أهم تجربة في حياتي, وأنا في مقتبل العمر. كانت تغمرني, وأنا أمام قبره الطاهر, كثير من الهواجس والمشاعر المتناقضة. ففي تلك اللحظات الصعبة, التي كنت أشعر فيها بالحزن والألم العميقين, كانت تعيدني الذاكرة إلي ذلك الماضي, القريب والبعيد, المليء بالذكريات الجميلة. فأين مني ذلك اليوم, الذي أخبرني فيه, والدي, رحمة الله عليه, عند عودتي إلي البيت, بأن رسولا من "دار المخزن", جاء يطلب مني الالتحاق, حالا, بالقصر, لأمر هام ومستعجل. توجهت, للتو, إلي التواركة, التي كانت ما زالت كلها رمال. دخلت إلي القصر, وقطعت ساحة كبيرة, تسمي ساحة المشور, التي بدت لي عادية, وبسيطة للغاية, وفي جانب من جوانبها, أدخلت غرفة صغيرة, وبسيطة للغاية, كان يطلق عليها اسم "البنيقة", وفي جانب من جوانبها, كرسي طويل من خشب, جلست عليه وانتظرت. انتظرت بضع دقائق, وأنا أتساءل عما كان ينتظرني, وأحاول معرفة السبب في استدعائي علي عجل , إذ أباغت بجلالة الملك محمد الخامس, طيب الله ثراه, يخرج من مكتب مجاور, مرتديا جلبابه الأنيق ذي اللون الرمادي, وعلي رأسه قبعته الرمادية, ويقبل علي, بوجهه الوسيم الوضاء. أديت له تحية احترام وإجلال, وقبلت يديه الكريمتين, وأنا مرتبك, وفي ذهول تام. فبادرني جلا لته, مطمئنا إياي بكلمات رقيقة, نزلت علي قلبي بردا وسلاما, بقوله " سي توفيق, بغينك تجي تعاونا". بقيت, برهة من الزمان, مشدوها, ومرتبكا, من شدة الحرج, إذ لم يكن ليخطر ببالي أن يخرج إلي الملك محمد الخامس بنفسه, ليطلب مني أن أكون من معاونيه. كان من المفروض أن يستقبلني مدير ديوانه ويعرض علي ذلك الأمر, أو أن يقابلني الملك وهو في مكتبه أو في مكان استقبالات جلالته. لكن تلك المبادرة الملكية الرقيقة, وذلك العطف الملكي, الذي شملني به الملك محمد الخامس, وأنا في مقتبل العمر, لا أدري من التقاليد, والمراسيم المخزنية, إلا القليل, تركا في نفسي أثرا عميقا لم يمحه الزمان, حيث ما زالت, إلي اليوم, تلك اللحظة منقوشة في ذاكرتي, وصورتها دوما بين عيناي. لقد حق لي أن أفخر, ولو بتواضع, بالمنة الالآهية التي جعلتني أمثل في تلك الآونة, بين يدي ذلك الملك الهمام, المهيب الجانب, الرقيق الشمائل, الذي كرس حياته في خدمة شعبه, ووطنه, ودينه, وضحي, في سبيل ذلك, بعرشه, مستهينا بما أصابه من مكروه, إلي أن تمكن, بتيسير من الله سبحانه وتعالي, وبفضل صبره, وجلده, ومقاومة شعبه, من العودة من منفاه, معززا, مكرما, حاملا معه بشري الحرية والاستقلال. كما حق لي أن أعتز بالشرف الرفيع, الذي حظيت به, بفضل من الله وإحسانه, لأكون في خدمة ذلك الملك الصالح, وأن أبقي بجانبه طيلة خمس سنوات, لم يبخل علي, أثناءها, بتقديره, ورعايته, إلي أن وافاه الأجل المحتوم. تلك السنوات الخمس, هي التي تعرفت خلالها, عن كثب, علي شخصية الملك محمد الخامس, وعلي خصاله الحميدة, وروحانيته, ووفائه, وإخلاصه في نضاله. كانت, حقا, مرحلة هامة في حياتي, أكسبتني كثيرا من التجارب, ونمت مداركي, في شتي الميادين السياسية, والإنسانية. مسيرتي في تلك الفترة, مع الملك محمد الخامس, وما واكبها من أحداث, ووقائع, وارتسامات, اختزنتها ذاكرتي, ورسمت بصمات عميقة في وجداني, كم يحلو لي, في كثير من الأحيان, استحضارها, وهي تلح علي, اليوم, في رواية البعض من معالمها, كانت, في الواقع, تتويجا لمراحل سابقة, عايشت فيها, كما عايش أبناء جيلي, منذ الطفولة, الملحمة الأسطورية التي كتبها الملك الراحل, بنضاله, وجهاده, وتضحياته, رفقة ثلة من الوطنيين الصادقين, منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين, سنة 1927. بدأت المسيرة عندما ارتوت نفوسنا, بما كان يحدثنا به, آباؤنا وأساتذتنا وزعماؤنا في حزب الاستقلال, عن السلطان محمد بن يوسف, وعن شخصيته, وحبه لوطنه, ويعلموننا العديد من الأناشيد الوطنية, وخاصة منها تلك التي كنا نتغنى بها, في كثير من المناسبات الوطنية, مرددين : " يا مليك المغرب, يا ابن عدنان الأب, نحن جند للفدى, نحمي هذا الملك عرش مجد خالد, ماجد عن ماجد , قد بناه الأولون, في شموخ الملك نحن لا نبغي به , معزلا عن حزبه, إننا في حبه, كلنا في ظله, دائما نفديه"