رغم ما يعرف عن المجتمع التونسي من تحرر واقتراب من نموذج عيش المجتمعات الغربية، وقوانين تبيح للمرأة والرجل الاختلاط في الأماكن العامة؛ إلا أن ظواهر تطفو من حين لآخر على السطح لتذكر بأن الإنسان التونسي، رجلاً كان أو امرأة، على ما بلغه من تطور، ما زال يلامس نفسياً وأخلاقياً سلوكيات أسلافه الذين مارسوا وكرسوا في الواقع الزواج العرفي، والذي تم إنهاء العمل به قانونياً بمجرد صدور لائحة الأحوال الشخصية سنة 1956، والتي أقرت في فصلها الثامن عشر مبدأ الزواج المدني، وألغت كل أشكال الزيجات الأخرى وتعدد الزوجات. وبالرغم من غياب الإحصاءات أو الأرقام حول هذه الظاهرة، التي تتم غالباً بشكل سري وتكتم شديد خوفاً من الوقوع تحت طائلة القانون، تطالعنا صفحات الجرائد التونسية من حين لآخر بقضايا تتعلق برجال ونساء تزوجوا عرفياً متجاوزين بذلك القانون التونسي، الذي يعاقب بسنة سجناً عن هذا النوع من الزيجات. في حين ذكرت احصائية رسمية أن 80% من الشباب و68% من الفتيات يمارسون العلاقات الخاصة دون عقود زواج من أي نوع. وجاء في صحيفة "لوكوتيديان" التونسية أنه تم تسجيل حالة زواج عرفي بين أستاذة جامعية ( 36 سنة) وزميل لها. وجاء في حيثيات الاستنطاق أن كلا المتهمين اختارا الزواج بشكل عرفي لامتناع عائلة الزوجة من تزويجها لزميلها في العمل. وقضت المحكمة بإبطال الزواج وب6 أشهر سجناً مع تأجيل التنفيذ. كما أوردت صحيفة "الشروق" التونسية حادثة تتعلق برجل أعمال تونسي متزوج، أحب سكرتيرته وتزوج بها عرفياً، وبرر فعله بمنع القانون التونسي زواجه بثانية. وفي حالة ثالثة تم تسجيلها على صفحات الجرائد التونسية تتعلق بطالب وطالبة جامعية اختارا مرضاة الله حسب اعترافهما أمام قاضي التحقيق إلى حين إتمام دراستهما وتقنين الزواج بشكل رسمي علني، وقد قضت المحكمة بإبطال الزواج والتحذير من مغبة العودة. كما أورد موقع"التونسية" الإلكتروني خبراً يتعلق بكهل في العقد الرابع، تحايل على زوجته الثرية وسلبها مبلغ 20 ألف دينار، وباستنطاقه أمام المحكمة برر فعلته بحبه لشابة جميلة تصغره بكثير، واشترطت هذا المبلغ مقابل موافقتها على الزواج عرفياً والذي تم بالفعل. ووفق تأكيدات خالد س. ل"العربية.نت"، وهو كهل عايش حالة زواج عرفي لزميل له وحضر شاهداً، فإن هذا النوع من الزواج يختلف عن مثيله في الشرق، لأن أطرافه كما يقول لا يعقدون زواجهم أمام رجل دين بل بشكل فردي، وفي أقصى الحالات بحضور شاهدين، حيث ينطق الزوج والزوجة تباعاً بالعبارة التالية: "اللهم أشهد أني زوجتها نفسي"، والعكس بالعكس. مسرحية اجتماعية تحت مظلة الدين وفي سابقة سينمائية تونسية تطرق في 2007 الشريط التونسي "كلمة رجال" للمخرج معز كمون لظاهرة الزواج العرفي والخيانة الزوجية من خلال شخصية "سعد" (جسّده الممثل رمزي عزيز)، وهو إمام جامع متزوج تحول بعد نجاحه في مسابقة "البرموسبور" إلى تاجر ملابس مستعملة، وأقدم على الزواج بثانية عرفياً (جسّدت الدور الممثلة جميلة الشيحي). وعرف الفيلم في تلك الفترة نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق بسبب تطرقه لقضايا مسكوت عنها في المجتمع التونسي، حيث شاهده أكثر من 50 ألف متفرج. وأقر مخرج الشريط معز كمون ل"العربية.نت" أنه هوجم من بعض القوى التي وصفها ب"الرجعية" والأقلام الصحفية لتطرقه لهذه الظاهرة وربطها بشخصية متدينة "إمام جامع"، مشيراً إلى أن القصة مستوحاة من واقع عاشه أحد أصدقائه. ويؤكد أن هذه الظاهرة موجودة في تونس ومتفشية، خصوصاً في الأوساط المتدينة، ويرى أنها مجرد مسرحية اجتماعية يكرسها بعض الأشخاص تحت غلاف ومظلة الدين والشريعة. واستنكر قبول المرأة التونسية هذه الوضعية "المتخلفة" حسب وصفه بعد أن منحها القانون مرتبة اجتماعية راقية تضاهي بها الرجل وامتيازات وحريات تحسدها عليها النساء في بلدان عربية أخرى. ويعتبر الباحث في علم الاجتماع التربوي طارق بن الحاج محمد أن الزواج العرفي هو آلية من آليات تقنين وتشريع العلاقات الجنسية الحرة (أي خارج إطار الزواج). وإجابة على سؤال "العربية.نت" حول اللجوء للزواج العرفي لدى شبابنا، في حين أن إقامة علاقات خارج إطار الزواج ممكنة ومتاحة، نظراً لتوفر عامل الاختلاط في جميع الفضاءات الاجتماعية؛ يؤكد بن الحاج محمد أهمية الجانب النفسي والثقافي في تفسير سلوك التونسي. فمن الناحية العملية تعتبر العلاقات الجنسية الحرة أمراً متاحاً لمن يريد، لكن هذا لا يمثل سبباً كافياً ومقنعاً لتلبية احتياجاتنا البيولوجية، نظراً لأن موروثنا الثقافي وتركيبتنا النفسية والقيم التي نتبناها تقف حائلاً دون قبولنا لهذه الصيغ المباشرة المتحررة من كل ضابط اجتماعي وأخلاقي. وعند وقوعنا في هذا "المأزق" فإننا نحاول البحث عن صيغة توفيقية أو "تلفيقية" نقنع بها علاقاتنا خارج إطار الزواج. وفي هذه الحالة يعتبر الزواج العرفي هو الوصفة التي تلبي حاجاتنا الجنسية دون الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير. ويضيف: "قد نبدو للوهلة الأولى بأننا عصريون من خلال لباسنا وطريقة عيشنا واستهلاكنا، لكن الحقيقة أن القيم التي تقودنا وتحركنا وتحكم تصرفاتنا (في غفلة منا) هي قيم تقليدية يمثل فيها مفهوم "الحرام والحلال" حجر الزاوية. ولهذا نحاول التحايل على هذا المفهوم وهذه المرجعية بابتداع صيغة تجمع المظهر العصري والمحتوى التقليدي بطريقة فيها الكثير من النشاز، وعدم الانسجام مع النفس والمجتمع والقيم. صيغة للخيانة الزوجية في السياق ذاته، يرى الباحث طارق بن الحاج أن ظاهرة الزواج العرفي لا تقتصر على الشباب الأعزب بل تشمل حتى فئة المتزوجين ذوي المستوى التعليمي والاجتماعي المقبول. وهنا يتحول الزواج العرفي إلى صيغة من صيغ الخيانات الزوجية. فحين لا نجرؤ على العيش مع "خليلة" حفاظاً على أسرتنا وسمعتنا وصورتنا الاجتماعية، وحين لا نجرؤ على تقويض مؤسسة الزواج عبر الطلاق والزواج بثانية (حسب القوانين المعمول بها)، نلجأ إلى الزواج العرفي. من أهم شروط صحة الزواج حسب القانون الوضعي التونسي الذي ورد في "لائحة الأحوال الشخصية" الصادرة في 13 أغسطس (آب) 1956 (والتي تعتبر المرجعية القانونية الوحيدة لإتمام مراسم الزواج)، هو توفر السن القانونية للقرينين، ووجود الشهود، والإشهار، والأهم من ذلك هو إثبات هذه العملية في سجلات رسمية عن طريق أطراف مخولة قانونياً لذلك، مثل عدول الإشهاد وضباط الحالة المدنية. وأي صيغة زواج لا تستجيب لهذه الشروط القانونية والمدنية تعتبر باطلة باعتبارها "زواجاً على خلاف الصيغ القانونية"، وهو ما يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. ويتفق الكثيرون على أن ظاهرة الزواج العرفي موجودة في تونس لكنها ليست بالظاهرة المتفشية مقارنة بما هي عليه في المجتمعات الشرقية، لا سيما وأن المرأة حققت في السنوات الأخيرة استقلاليتها المادية والاجتماعية، مما وفر لها العيش بمفردها وأتاح لها الفرصة لإقامة علاقات خارج إطار الزواج، وكثيرات هن اللواتي يتقاسمن العيش في شقق مع زملاء عمل أو أصدقاء دراسة دون أن يربط بينهم عقد زواج من أي نوع. وجاء في دراسة رسمية صادرة سنة 2007 عن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري (هيكل حكومي)، أن 80 بالمئة من الشبان و68 بالمئة من الفتيات في تونس يمارسون الجنس دون زواج. فيما أفادت دراسة أخرى أن فتاة واحدة من بين كل عشر فتيات تونسيات لا تعارض إقامة علاقة جنسية قبل الزواج مقابل أربعة من بين كل عشرة شبان.