قال الله عز وجل: «وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا. قال إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا. قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا. قل إنّي لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه مُلتحدا. إلا بلاغا من الله روسالاته. ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً. حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقلّ عددا} (سورة الجن: 24-18) اشتملت هذه الآيات على خاتمة أحاديث القرآن الكريم عن الدعاء - حسب ترتيب المصحف . فهي بمثابة المغزى العام، والدرس الكلّي، والخلاصة الشاملة لهذه الأحاديث القرآنية. ممما يستوجب وقفةً تستخلص جوهر التوجيه القرآني في هذا الموضوع، ولبّ الفقه الفرقاني حول أساسه ومقاصده الكلية ومنهجه الصحيح. ففي بداية الآيات تخصيص المساجد لله وحده، فلا أحد له فيها شيء من حقوق العبادة، وواجبات الطاعة، ولا شيء لأحد فيها من مظاهر العبودية والخضوع والتألّه والتعبّد. فالمساجد لله وحده، ومن ثم فما يكون فيها من ذكر وعبادة، ودعاء وتقرّب، يجب أن يكون لله وحده كذلك. وإلا وقع الإنسان في مظاهر الشرك المتعددة، وانزلق إلى مزالق الكفر المتنوعة، سواء بقصد مخلوق من المخلوقات بطاعته وتقربه، أو بتخصيص الدعاء لأحد من عالم الإنس أو عالم الجن أو عالم الملائكة، أو بجعله نصيبا له في ذلك الدعاء مع الله سبحانه. وكلها مظاهر منافية للتوحيد الخالص، مقوضة لأساس العقيدة الصحيحة. وإذا انعدم شرط صحة الدعاء الذي هو التوحيد والإخلاص، لم يكن مقبولا، بل رد على صاحبه، وقيل له: إذهب الى من دعوت من معبوداتك الباطلة، واسألها أن تعطيك ما طلبت! وهذا من أنواع العقاب التي يعاقب بها من أشرك مع الله في الدعاء، جزاءً وفاقا. لأنه ترك الحق وهو توحيد الله تعالى بالدعاء، واتبع الباطل الذي زيَّنه له وهمه وشيطانه وهواه. فإن الدعاء لا يكون إلا لله، ولا يجيب الداعي إلا الله، وماسوى ذلك سراب خادع، لايحصل الداعي من ورائه إلا على العذاب والشقاء. هذه هي القاعدة الكلية لفقه الدعاء في القرآن الكريم لخصتها آخر آية ورد فيها حديث عن الدعاء حسب ترتيب المصحف الشريف. ولهذه القاعدةالكلية والوصية القرآنية الغالية، تجسد أسمى، وتطبيق أعلى في حياة خاتم الأنبياء والمرسلين، إذ كما ختم الحديث عن الدعاء في القرآن الكريم بهذه الآية من سورة الجن، كان خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم المظهر الأسمى لتطبيق هذا التوجيه القرآني، حيث كان خلقه القرآن، وكان في سيرته التجسيد الأعظم لعقيدة التوحيد في تاريخ الرسالات السماوية كله. وفي هذا السياق الذي نقف عنده الآن يذكر الله سبحانه نبيه بوصف هو المظهر الأكمل لتحققه صلى الله عليه وسلم بهذه العقيدة الناصعة السمحة، وبهذا الإخلاص الأكمل، حيث ذكره عز وجل في مقام العبودية، ومقام الدعاء: (وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا. قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا). ولازم كمال العبودية لله سبحانه، وهو الكمال الذي ما تحقق على الوجه الأتم الأبهى إلا لرسول الله صلى الله عيه وسلم إفراد الحق سبحانه بالدعاء، وإخلاصه له: (قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا). وفي مجتمع يسود فيه الشرك ويهيمن عليه بظلماته، وتتعلق فيه القلوب بأصنام لاتضر ولاتنفع، من الطبيعي أن يلقى كل من رفع صوته بالتوحيد، وأعلن إخلاص العبادة والدعاء لله الواحد الأحد، ألوانا من التعنيف والاضطهاد. وذلك ما قابل به المشركون دعوة سيد الرسل الكرام ودعوة صحبه رضي الله عنهم. وذلك ما أشار إليه قول الله تعالى: (وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا). يرد خاتم المرسلين على موقف المشركين من دعوته بأنه عبد لله وحده، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا. إذ ذلك بيد الله الذي يملك وحده النفع والضر، الهداية والضلال، الخير والشر. ولهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يستند الى سند ربه، ويحتمي بحمى خالقه، ويركن إلى جناب سيده الأقدس: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا). وهو إذ يتوكل على ربّه، ويعتمد عليه وحده في حياته كلها، يرجو منه العون الكامل والتأييد التام لدعوته {إلا بلاغا من الله ورسالاته}. إذ الله وحده قادر على تيسير أمر دعوته، وتمهيد طريق تبليغ رسالته، وحينئذ يؤدّي الرّسول هذه الرّسالة بأمانة ورعاية وعناية من خالقه. والله نعم المولى ونعم النصير. عندما ينتقل الكافرون إلى دار الجزاء، حيث يعاينون نيران الدّركات، سيوقنون بعد فوات الأوان بأنّ الدّعاء لا يكون إلا لله، وبأن التوكل لا يكون إلاّ عليه وحده. كما سيوقنون بأنّ النّصر والتأييد منه سبحانه، وأنّهم مهما بلغت قوّتهم ونصرتهم في الدنيا فهما كلا شيء أمام نصرة الله، وتأييد الله. وذلك قوله عز وجل: «ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عددا» هذه هي الرسالة الكلية التي يحملها إلى الإنسان فقه الدعاء في القرآن الكريم، وهي الخلاصة العامة للآيات المتكاملة المتعاضدة حول الدّعاء في القرآن والتي قدّمنا في ما سبق من حلقات رؤية شاملة عنها، ركزنا فيها على الدلالات والإيحاءات، وتوقفنا فيها عند بعض مظاهر جمالية النظم القرآني، بما يخدم موضوع فقه الدّعاء. والله المستعان.