.. الفضاء الأجرد تستبيحه الريح. تصرف فائض طاقتها وتبطش بالكائنات والأشياء. بضربات حادة لحوحة تصقل وجه الأحجار الصلبة القاسية، وتأكل بعضا من نتوء أخرى. تطيح بعزلة النباتات الشوكية النادرة؛ تكسر جزءا منها وترحل به بعيدا، وتجتث أخرى من جذورها قبل أن تطوح بها في شتى الاتجاهات طعاما للغبار... تقلب كائنات حقيرة على ظهورها، وبالتراب والقش تغلق مداخل جحورها... وحيدا كان الرجل يمشي ويمشي في العراء الممتد بلا نهاية. بجسده النحيف الذي تحف به الريح وينقض عليه الغبار، يبدو مثل شبح خرج للتو من قمقم أسطوري، أو تكشف عنه الفراغ الهائل. تصفعه الريح من خلف، فيلتصق جلبابه الفضفاض بجسده، ويلتف طرفه الأسفل بأعلى الساق كاشفا عن ربلة عجفاء مكرمشة. بعمامة يلفها حول رأسه ووجهه يتقي هجمات الغبار الذي تتحول ذراته إلى إبر حادة اللسع. من أين جاء الرجل؟ منذ متى وهو ماض ? هكذا ? في اجتراح هذا الخطو العنيد؟...عوت الريح: لا تفكروا قط في تقص عكسي لآثار قدميه. بمكنستي أكشطها عن وجه الأرض أثرا أثرا، وذاكرتي الموغلة في القدم لا تسعفني البتة في تذكر خطوته الأولى: من أي جهة من الجهات الأربع ابتدأت...إلى أين يمضي؟ لا تجهدوا أنفسكم، تدخل المدى الغامض الذي لا يتكشف عن شيء، و خائبة حسيرة ترتد إلى نفسها كل نظرة تروم التوغل فيه والنفاذ إلى ما وراءه...هو هنا الآن وكفى. تأتيه الريح من الخلف فيوالي خطوه الحثيث ويقضم المزيد من المسافات. تلتف الريح حول نفسها قليلا كأنما تعبث وتلهو، ثم تهب فجأة عكس اتجاهه، فيستدير الرجل ويوليها ظهره وأبدا لا يتذمر. بتسامح حكيم يتقبل رعونتها، ويعرف أنها تختبر صبره. يحكم شد العمامة حول رأسه، ويلف طرفيها حول وجهه وعنقه ويفكر في شيء واحد فقط: أن يعوض هذه الخطوات الضائعة عندما تطاوعه الريح مرة أخرى؛ وما تلبث أن تفعل... هل الرجل خائف؟ تنخر داخله سوسة الشك؟ هل يعرف وجهته بمحض الحدس والتجربة؟ خطاه فيها تصميم ووثوق، ولا يني يتقدم. لعله خائف! يخشى التوغل عميقا في المتاهة، حيث لا عودة أبدا ولا وصول.. لكنه يكابر، يصبر ويخفي خوفه وهواجسه. يدفنها في بئر الأعماق. ينبغي ألا ترى الطبيعة خوفه: تردد يربك إيقاع الخطو/ التفات عشوائي منفعل / كدر يخالط ماء العينين على إثر لحظة ضعف خاطفة تنتابه.. تناوشه الريح مرة أخرى وتغير عليه من أمام. وعندما يلتفت ويوليها ظهره يبدو مرتديا لنظارات عريضة، سميكة الإطار وغامقة السواد. أخذت حدة الريح تخف رويدا رويدا إلى أن سكنت تماما ،وعادت إلى قمقمها الخفي. همدت ذرات التراب واستعادت سكينتها... أخذت الحشرات والهوام تزيل ما تراكم من غبار وقش في مداخل جحورها وبيوتها قبل أي غارة أخرى للريح قد تأتي في أي لحظة.. على نحو تدريجي راحت تصفو صفحة السماء، إلى أن بدت وسطها تماما ساطعة وباهرة الضوء شمس صفراء... قبل أن تظهر أحس الرجل بسخونتها وقد انتشرت من حوله قبل أن تلفحه بخيوطها الحارة، مثل إشارة منذرة... هذا ما كنت أخشاه، قال الرجل لنفسه. يعرف جيدا بأنه لا مفر من لعنة الشمس في هذا العراء. إذا حاصرته في هذا المكان و سددت باتجاه رأسه ضربة من ضرباتها فستكون تلك هي النهاية لا محالة. بشكل عفوي تماما امتدت يده إلى قربة الماء تتحسسها تحت ثيابه مربوطة إلى الحزام، وأحس بحلقه قد جف قبل أن يحدث ذلك بالفعل.. توقف قليلا. صنع من يده مظلة وحاول أن يرى أبعد ما يستطيع، عل عينيه الخبيرتين ترصدان نأمة ما أو إشارة، لكن في المدى البعيد كانت تتراقص ألسنة السراب، ويعربد الفراغ الممتد بلا نهاية... ارتدت نظراته وقد آلم عينيه التحديق ووميض السراب المتراقص. نظر بيأس إلى السماء الجرداء: لا أثر البتة لغيمة تكسر حدة هذه الشمس العدائية. لا بد من متابعة السير إذن، لا خيار آخر لدي. وعلى كل حال، ففي مواصلة التقدم هناك دائما أمل، احتمال.. من يدري؟ أخذ الوهن يدب في خطواته، وصنع ماء العرق مسارب و ممرات بين ثنايا جسده الهزيل. بغتة دهمه دوار خفيف، تقلص المدى الواضح لرؤيته، وبدأت تضيع منه تفاصيل المكان... حينذاك تضرع عميقا لجسده ألا يخذله، مدركا أنه لا ينبغي أبدا أن يستسلم للذعر، وإلا ستختلط عليه الاتجاهات، ويتخبط في عمى اليأس، وحينذاك قد يبدد احتياطه الثمين من طاقة هو في أمس الحاجة إليها، وهو يبحث عن خلاص اللحظة الأخيرة.. قد يبدو الأمر مذهلا وعصيا على التصديق حتى، لكن من رحم الفراغ الشاسع، المرهب الشساعة، تنبثق فجأة.. شجرة! أجل، شجرة بجذع يابس بدأت تتوغل في عروقه سوسة الموت، وبأغصان قليلة كأنما بترت أو توقف نموها في منتصف الطريق...لكنها تصنع ظلا ! تبدع جنة صغيرة في هذا الجحيم المستعر.. في مكان آخر غير هذا، قد تبدو للناظر مجرد ذكرى شجرة، أو هي ? فقط ? احتمال شجرة، لكنها إذ تقهر سطوة الموت لتظهر هنا، وسط هذا القفر، فهي بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير، لابد أن لها قيمة ووقع غابة وارفة... فالطبيعة التي قد تخشوشن، تخدع، تقسو حد الإذلال، وبخلاعة ترقص رقصة الجدب والقحط ... تلين فجأة، ترق، تخضوضر وتحتفي بالحياة في صورها الأبهى.. يرى الرجل الشجرة فينتابه ما يشبه الصدمة، لكنه يتمالك نفسه. كانت ذبالة وعيه تترنق بوهن، و استمات كي يستعيد صفاء ذهنه. سار باتجاهها وهو يجاهد كي يمنع نفسه من الركض والاندفاع الأهوج؛ الطبيعة التي وهبته قطعة الحياة هذه، هي نفسها علمته أن يحترس، فربما كان واهما! يعرف أن الجسد عندما يستنفد طاقته وقدرته على الاحتمال، قد يخدع صاحبه ويورده مورد التهلكة؛ ترتبك الحواس وتتعطل فتختلط عليها المرئيات والأشياء، وتستسلم للأوهام والصور الخادعة إذ تنشد الخلاص، أي خلاص ولو كان.. الموت! يدنو الرجل من الشجرة. يصل إليها. يمد يده ويضعها على جذعها المخشوشن الصلب. يتحسسه لبرهة، ثم شيئا فشيئا يحني جسده المنهك إلى أن يجلس. يسند ظهره إلى الجذع. يمد رجليه بشكل مستقيم، ثم - دفعة واحدة - يسري في كل أعضاء جسده دبيب الإرهاق والتعب. يحس به يتحرك هابطا باتجاه أصابع قدميه. يرسل آهة مدييييييييييييييدة. يرتخي جسده تماما ثم يغفو.. استيقظ بفزع خفيف، وكان حلقه قد جف تماما. أخرج مطريته. بلل شفتيه اليابستين، ثم بلع قدر ما يرطب حلقه من القطرات، وبعناية فائقة دس كنزه الثمين في مخبئه. تيمم صعيدا طيبا، وصلى الظهر بخشوع ورهبة ضاعف من حدتهما صمت وفراغ المكان. ولما أصاب قليلا من الراحة، وآنس في نفسه القدرة على المشي، قام واقفا وواصل السير.. قبل أن يبتعد التفت باتجاه الشجرة، وشيعها بنظرة امتنان. كانت قد علمته للتو درسا من ذهب: أستمر في هذا القفر اليباب، وأقهر الموت لأني أبدا لا أسرف في الحياة ! هل الرجل خائف من الموت؟ أبدا! أنا من هذا التراب الذي أطأ أديمه بنعلي وإليه أعود. ومتى ما أرادت مشيئة الله أن يحدث ذلك فأنا مستعد. يمكن لطائر الموت أن ينقض علي في أي لحظة. يحلق عاليا في رحابة هذه السماء الصماء، بعجرفة لا تليق إلا به. يبسط جناحيه العريضين، ومن عل يحدجني بنظرة من عينيه الحادتين. قد يوهمني بالهبوط ثم ينثني ويعود ليحلق أعلى فأعلى، دون أن يدعني أخرج عن مجال رؤيته، وعندما يعن له ذلك ينقض؛ وإما يفعل ذلك سيجدني مستسلما، لكن غير خائف! فحتما لاشيء يعصمني من ضربته، ولا يخاف الموت إلا ضال أو من وقرت في صدره الغفلة والوهم.. بلسانها الأرعن تضرب الريح كرة أخرى الرجل من الخلف. يلتصق الجلباب بجسده النحيل، ويتسلق طرفه السفلي الساق السمراء النحيلة إلى أعلى، فتبدو تلك الربلة المميزة في مكانها: عجفاء، متغضنة وناتئة كأنما ألصقت هناك عنوة.. مفاجآت الطريق أمر وارد، يقول الرجل لنفسه... لكني ما دمت لا أستطيع التكهن بها، ولا أملك لها دفعا، فلن أدعها تشغلني. سأمضي في طريقي قدما، وعندما تعترضني مفاجأة سارة، مثلما كان شأن الشجرة، فسأقبل هبة القدر بكل امتنان، وإما يكن الأمر غير ذلك، فسأكون جاهزا للتعامل مع أي طارئ.