كثير من الناس يعيشون ويموتون دون أن يتصرفوا في حياتهم، لأن الحياة تتصرف فيهم فتسير بهم حيث يدرون ولا يدرون. ومن تم تجدهم على هامش الحياة قد تسير بهم أو بدونهم دون أن تضيف شيئا أو تخسر.. وكثير من الناس يفرضون أنفسهم على الحياة فيتصرفون في حياتهم وحياة عصرهم، ويحولون مجرى التاريخ بتأثيرهم العملي. وما ذلك الا لأنهم يحملون رسالة. وقد كان علال من هؤلاء الذين حملوا رسالة ضخمة منذ قال: أبعد مرور الخمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلا الى العيش الذي تتطلب الى أن قال في أخريات أيامه: ولئن قضيت على الطريق فحبذا ما نلت من شرف الشهادة في العمل ولسوف يكمل ما بدأت أحبتي فهم الضمان لكل خير يعتمل كان منذ البداية حتى النهاية يتحمل رسالة ضخمة رآها بموهبته ونظرته البعيدة في أواسط العشرينات والظلام مخيم بكثافة على هذه البلاد، وتحمله في شجاعة المؤمن بها المقدر لخطورتها الواثق من قدرته على تحملها المضحى في سبيلها المخطط للقيام بها وتنفيذها. من ايمانه بهذه الرسالة وقدرته على تحملها استطاع أن يؤمن باستقلال المغرب وقدرة الشعب على استرجاع هذا الاستقلال. فليس من السهل أن يكون انسان في عمق المنفى بقلب افريقيا والحرب يومئذ غامرة أطراف العالم، ثم لا يجد طلبا يقدمه لضابط مناضل في سبيل استرجاع الامبراطورية الفرنسية الا استقلال المغرب. ومن ايمانه بهذه الرسالة بدأ قبل ذلك نضاله في كل الجبهات التحررية الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ايمانه بالرسالة كان يجعله يتخطى الميدان الضيق الذي يفترض أنه يعمل فيه كزعيم سياسي. فيوجه الشعب في الميدان الروحي والمادي على السواء، ويشرح الاسلام في الوقت الذي يتحدث فيه عن تنظيم الاقتصاد، ويناضل من أجل الديمقراطية في الوقت الذي يناضل من أجل حماية الاسرة وتنظيم العائلة، ويخطب في مركز الحزب ومن هناك الى المسجد. عمله لم يكن يأخذ طابع الاختصاص السياسي أو الوطني، ولكنه يشمل العمل الثوري لتطوير المجتمع لانه لم يكن سياسيا محترفا وانما كان رجلا ذا رسالة. وهو في رسالته لا يعترف بالحدود الضيقة للفكرة، وانما يأخذ الفكرة في شموليتها المطلقة. الاستقلال عنده لا يعني التحرر السياسي ولكنه يعني التحرر الوطني (بكل أبعاد الوطن) والتحرر الاجتماعي والتحرر الفكري. وكثير من قصار النظر كانوا يعتبرون هذه الشمولية نوعا من الجهد الضائع في الميادين المختلفة. ولكنه كان يعتبر عمله كما قلنا في حدود الرسالة التي يتحملها، ولا حدود لها الا في إطار التحرر المطلق من كل ما يمس الاستقلال بالمعنى الحقيقي للاستقلال. وهو لا يعترف بالحدود الضيقة للوطن حتى لا تكون رسالته في دائرة البلد الضيق والوطني الضيق والمجموعة الضيقة. ومن ثم كانت رحلاته العديدة في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها ليتحدث الى كل أصناف الناس، ثم رحلاته في كل أرض يمكن أن يرحل اليها ليبشر برسالته، حتى لايترك هذه الرسالة مقتصرة على الأهل والأقربين وما زار عربيا أو اسلاميا أو غربيا الا كانت رسالته في يده يبشر بها أينما حل وارتحل. الرسالة التي حملها علال هي التي جعلته يرى العمل الوطني كلا لا يتجزأ، فلا يهادن موضوعا لأنه يريد أن ينجح في موضوع، بل انه ليعتبر النجاح غير نجاح ما دام لم يحقق الهدف كاملا. محترفو السياسة يعتبرون عملا كهذا غير سياسي، ولكنه كان يعتبره في عمق الرسالة التي يحملها. المثل على ذلك قريب. فقد أبى في بداية الاستقلال أن يعترف بالاستقلال الذي وعدت به فرنسا وأعلنته في اتفاقية ثاني مارس 1956 لانه كان يعتبر الاستعمار الذي تمرغ المغرب وحله منذ سنة 1912 أكبر من هذا الاستقلال الذي اعترف به في سنة 1956 ولذلك كان يطالب بجميع الاراضي المغتصبة وفي مقدمتها الصحراء. هذا نموذج من رسالته التي حملها والتي تعطى لعمله الوطني بعده الحقيقي. وفي غمرة المعركة السياسية مثلا كان يشارك في المعركة الادبية والفكرية مثلا فيسهر مع اتحاد الكتاب في مؤتمره حتى الفجر، لان عمله هذا جزء من رسالته. لم يقبل أن يتخلى عن هذا الجزء من الرسالة، لانه لا يملك أن يتخلى عن ذلك. هو واجبه وهو حقه. والذي يتخلى عن الحق مستعد أن يتخلى عن الواجب ورسالته لا تبيح له ذلك. كان يرحمه الله يتحمل أعباء الرسالة بكل شجاعة، بل بكل اندفاع وليس من التكرر في شيء أن نعيد كلمته المشهورة: لن أموت قبل أن أموت. فقد كان يعتبر التخلي عن أي جزء من رسالته نوعا من الموت. ومثلا علال لا يضع خده في التراب طلبا للموت قبل أن يغتاله الموت وهو في الميدان. من كتاب: ملامح من شخصية علال الفاسي للاستاذ عبدالكريم غلاب