الوجه القناع تعرفت عليه في حفل تنكري في بيت صديق دبلوماسي.كل الضيوف كانوا يضعون أقنعة ظاهرة فوق وجوههم باستثناء هو وأنا: كان وجهه ظاهرا،بلا قناع، بلا مساحيق،ولكنه كان مركبا تركيبا عجيبا: النصف الأيمن مختلفة ملامحه عن النصف الأيسر.فزادت حيرتي ووقفت مشدوها حين طلع صوت صديقي الدبلوماسي من الخلف قائلا: اطمئن يا صديقي فهذا وجه صاحبنا الحقيقي وليس بقناع! وقدمه إلي:الأخ الدكتور فلان الفلاني مستشار ثقافي في سفارة بلد عربي شقيق. وتركنا مضيفنا ليهتم بضيوف آخرين، و تبادلت أنا والرجل ذو الوجه العجيب المجاملات اللازمة ثم سألته عن أحوال بلده المضطربة كثيرة هذه الأيام. أجاب:ماشي.نحن نتكيف مع كل ظرف طارئ. وسألني: أنت كاتب، تكتب ماذا؟ أجبت: أكتب روايات، ومرة مرة أكتب مقالات أعلق فيها على بعض الأحداث الطارئة في البلد و أقول رأيي فيها. علق:من الأحسن للمرء في زمننا هذا أن يحتفظ بآرائه لنفسه. كان يتكلم بهدوء خارق ، وكنت أتلصص النظر مشدوها إلى وجهه العجيب.هذا وجه لا يحتاج إلى قناع لأنه هو قناع نفسه.ولم يبد على الرجل البتة أنه محرج من نظراتي المتلصصة والمشدوهة.كان هادئا يشرب على مهله من كأس ويسكي مثلج في يده.والغريب أن أي تعبير واحد لم يكن يستقر على وجهه بل كان ذلك يختلف بين جهة وجهه اليمنى وجهته اليسرى.وفجأة واجهني بالقول: - أنا أيضا أكتب رواية عنونتها ب»الوجه القناع» ولكن لا أعتقد أنني سأنهيها في يوم ما! و ضحك (أو بالأحرى ضحك طرفا وجهه معا)،وقال: وبالطبع فأنا هو بطل الرواية،أنا أو وجهي المركب هذا: لا فرق! قلت في تلقائية: كلنا نخفي وجهنا الحقيقي وراء قناع ما! لم يعلق.خمنت أنه يسخر في سره من قولي المكرور و السخيف هذا.و فجأة ارتفع صوت مضيفنا طالبا الصمت التام ليعلن خبرا مها. قال: جائزة أحسن قناع منحت هذه المرة، وبالإجماع ، لصديقنا الكاتب والروائي (وذكر اسمي مشيرا نحوي) الذي حضر إلى الحفل بدون قناع معلوم!و هذا هو أكبر قناع حقيقي! وفوجئت حقيقة،وصفق الحاضرون وأنا أخمن سخريتهم جميعا من وراء أقنعتهم،وصفق صاحبي ذو الوجه المركب أكثر وعلق قائلا: ها أنت تحصل على موضوع جيد لرواية قادمة يمكن أن تعنونها ب» الوجه القناع!».هل هذا عنوان مناسب ؟ وجه الزحام يسير السي حكيم عبد الحكيم ?أستاذ الفلسفة المتقاعد- وسط الزحام ?زحام خلق رب العالمين- وهو يحس بأنه لا يتحرك.أو أنه يتحرك حركة سهم زينون الإيلي. يتحرك ظاهر السهم وباطنه ثابت.تماما مثلما تتحرك الوجوه من حوله في الزحام ?تتحرك في كلا الاتجاهات- ولكن وجه أوحد واحد ثابت يسد باب الرؤية... في كل الاتجاهات. وهذه الحال صار الأستاذ السي حكيم عبد الحكيم يعيشها ?وسط الزحام- منذ أن كف عن الانقطاع عن الخلق والاعتكاف في مكتبته بالدار، وصار ?بالعكس- يبحث عن التدافع مع الناس وسط الزحام.ولكن ما بال الخلق كثير،والزحام شديد، ولكن ، هو، السي حكيم عبد الحكيم، المتدافع مع الخلق ، والغارق في الزحام، بالكاد يتحرك حركة معلومة ولا يرى من حوله إلا وجها واحدا أوحد؟ ولما كان يعلم ?بحكم المهنة- بأن الفلسفة هي بالتعريف ابتداع المفاهيم والتفكير فيها،فلقد ابتدع مفهوم «وجه الزحام»،وراح يفكر فيه.وقاده التفكير إلى نتيجة واحدة عبر عنها بهذه العبارة النيتشوية الساخرة: التفكير عندما يهوي مثل المطرقة على الأشياء فإنه يسوّيها.والسي حكيم عبد الحكيم صار يحس بأنه يحمل في رأسه مطرقة تمطرق وتسوّي كل شيء من حوله وفي داخله.ومن هنا صار يهرب من عزلة مكتبته إلى مخالطة دنيا الناس، ومن صمت وحدته إلى ضجيج الزحام.ولكن المطرقة من حوله وداخل رأسه لا تكف عن عمل عملها الدائم ...تمطرق وتسوّي... فيتحرك السيل ?سيل الزحام- ولا حركة...وتتعدد الوجوه ?وجوه الناس- ولا أحد! الوجه العزيز يشتغل عبد الحميد الطاوجني كاتبا عموميا يكتب الرسائل الشخصية والرسمية للزبناء. وبهذه الصفة فهو يجلس كل نهار في باب السويقة أمامه آلة كاتبة عتيقة عندما يشغلها تطرطق حروفها كأنها طلقات بارود تنطلق في كل الاتجاهات.وبحكم سنين العمل الطويلة صار عبد الحميد الطاوجني يجس بأنه لم يعد هو الذي يشغل الآلة الكاتبة أو حتى أنه هو الذي يملي ما تكتبه.فصيغ الرسائل جاهزة ومحفوظة ويمكن الجزم بأنها تكتب نفسها بنفسها.وهذا ما يسميه أهل الحرفة بالتمكن من حرفة الكتابة.وعبد الحميد الطاوجني كاتب منذ أن حصل على الشهادة الثانوية و قرأ كل كتب المنفلوطي وحفظ كل حكايات ألف ليلة وليلة.وقد كتب أول ما كتب رسائل حب إلى محبوبة تخيلها على صورة فيرجيني في رواية «الفضيلة» وصورة الجارية معشوقة قمر الزمان في ألف ليلة وليلة.وكان يحلم أنه سيكتب رواية كاملة يتخيل فيها محبين يتواصلان فقط عن طريق الرسائل.ولكن أباه ?الشاويش- يموت فجأة فينقطع هو عن الدراسة ويشتغل حمالا ثم نادلا وأخيرا يستقر به المطاف كاتبا عموميا في باب السويقة.كان في البداية يكتب ويتفنن في الكتابة مما جعل زملاءه في الحرفة يسخرون منه و الزبناء لا يقبلون عليه.فالرسائل ?شخصية أو رسمية- لها قالب واحد لا يقبل الزبناء له بديلا. فرسالة الشوق-مثلا- لا ينبغي أن تختتم بغير الجملة التالية: «لا ينقصنا إلا النظر في وجهكم العزيز». و لما بدأ عبد الحميد الطاوجني بكتابة عبارات بديلة تفنن في صياغتها تفننا لم يقبله الزبناء الذين أصروا على كتابة العبارة المألوفة.فاستسلم عبد الحميد الطاوجني وأحس حقيقة أنه يسلم للآلة الكاتبة أمر كتابة الرسائل ويكتفي هو بالنقر فوق حروفها.ولكن كلما طرطقت حروف الجملة الختامية «ولا ينقصنا إلا النظر في وجهكم العزيز» كان أمر عجيب يحدث: فعبارة بديلة لا تشبه كل العبارات السابقة تطلع وتنكتب في ذهن عبد الحميد الطاوجني الساهي.ومع الأيام انتبه عبد الحميد الطاوجني إلى أنه كتب في ذهنه رسائل شوق عجيبة وعديدة إلى من يدعوه ب»الوجه العزيز»،وإن كان عاجزا عن تحديد صورة هذا الوجه العزيز بالضبط وحائرا تماما في تحديد اسمه! وجه الجبل كل عام يصعد الأستاذ عبد السلام جبل «العَلَم» ليحضر موسم الولي مولاي عبد السلام.الطريق الجبلي مرتفع ومتعرج والسيارة قديمة ومتهالكة.لذا يحس الأستاذ عبد السلام في كل مرة بأنه يصعد في السماء.ولما يترك ظهر الجبل وراءه ويستقبل قبلته ووجهه و يدرك ?أخيرا- البقعة التي كان يتخلوى فيها الولي الصالح وبنيت فيها قبته يحس ?بالرغم من زحام و ضوضاء الحاجين (يقال بأن زيارة مولاي عبد السلام هي حج المسكين)-بأنه قطع مع عالم سفلي ودخل في عالم علوي.هنا يحس الأستاذ عبد السلام بصمت خارق يشيع في باطنه ومن حوله كأنه صمت من لم يعد يسمع أو يرى بالكامل .ومع ذلك فالأستاذ عبد السلام يسمع ويرى.إنه يسمع أصوات الحاجين يصلون ويلتمسون البركات ويراهم يركعون ويسجدون ويدورون حول القبة.وهو يفعل مثلهم.ولكنه لا يعرف كيف يفسر حالة الصمت الخارق التي يغرق فيها وسط الزحام والضوضاء.ومرة واحدة فقط انخرق فيها هذا الصمت لما سمع فجأة من يناديه: -يا عبد السلام! والتفت الأستاذ عبد السلام ولم يبصر وجها يعرفه.فتجاهل.وتكرر النداء: -يا عبد السلام! وقال الأستاذ عبد السلام في صمته المنخرق: إن هذا من خداع حواسه أو أنه من كرامات الولي الصالح.وفي هذه اللحظة بالضبط كان واحد من القراء المتناثرين حول القبة يقرأ الآية القرآنية التالية: «ولما جاء موسى لميقاتنا،وكلمه ربه،قال: يا رب، أرني أنظر إليك،قال: لن ترني،ولكن أنظر إلى الجبل ،فإن استقر مكانه فسوف تراني،فلما تجلى ربه بالجبل،جعله دكا،وخر موسى صعقا،فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين».ودهش الأستاذ عبد السلام،وقال في صمته الخارق الذي عاد يغرق فيه من جديد: الصوت! الآية! هذا لا يمكن أن يكون مجرد صدفة! والتفت جهة وجه الجبل ليرى،فرأى...فظن خيرا أيها القارئ ولا تسأل عن الخبر!