هذا زمنُ اللاَّمعقول، زمنٌ صفتُه أن الإنسانَ فيه لا يستطيع إثباتَ وقوعِ الأحداث في سياقاته الاجتماعيّة والسياسيّة أو نفيها بالحجّة والبرهان، ومن ثمة يُصيبُه التردّدُ والحيرةُ اللذان تحدّث عنهما تودوروف في كتابه مدخل إلى الأدب الفانطستيكي، ويغيبُ عن ذهنِه كلُّ ما هو مفهومٌ بيِّنٌ ويحضُرُ فيه كلُّ ما هو موهومٌ غائمٌ يبلغ درجة الشكِّ الشبيهِ باليقينِ. ذلك أنّنا كنّا نعتقد أنّ "محاكم التفتيش" التي ظهرت في أوروبا قبل الثورة قد اندثرت من واقعِ الناسِ، وتناسينا مَنْ مَثُلَ أمامَها من العُقَلاءِ من العُلماءِ أمثال الفيلسوف الايطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو وكوبرنيكوس القائل بدوران الأرض ونالوا ما نالوا من عذاب الدُّنيا "ونحن هنا نترحّم على أرواحهم ونسأل الله أن يُزَحزِحَهم عن عذابِ الآخرةِ"، ولكنّ الأخبارَ التي تصفَعُنا كلّ لحظةٍ من فضائياتِنا تُعيدُ فينا شكَّنا في التخلُّصِ من أدران الماضي، بل وتضعنا أمامَ حاضِرٍ عالميٍّ أشدّ قساوةً وظُلْمًا من الماضي البشريِّ. فبعد أيام من إحباط محاولة تفجير طائرة أمريكية لدى هبوطها في ديترويت قادمة من العاصمة الهولندية، سارعت إدارة أوباما، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام دون أن يُدْفِئَ كرسيَّه بالبيتِ الأبيض، إلى اعتماد مبدإِ "مطارات التفتيش" باستخدام جهازٍ فيها يكشف أبدانَ المسافِرين ولا ينسى حتى آثارَ عمليات تكبير الثدي للمسافرات. وأكد الباحثون أنه لن يُطلب من المسافرين عبر مطار مانشستر بعد الآن نزع سراويلِهم وأحذيتهم وأحزمتهم حين يمرون أمام أجهزة الكشف الكامل، بل إنّ هذا الجهازَ "سيوفر على المسافرين متاعب نزع ثيابهم من خلال التقاط صور عارية لهم بالأسود والأبيض" وِفقَ ما تناقلت الأخبارُ. *** وهنا نسأل السيد أوباما وبعض قادة أوروبا عن رأيِهم في حرمةِ الأجسادِ الآدميّة وحقِّها في الاحتفاظِ بأسرارِها؟ وهل مازال بالإمكان تصديقُ خطاباتِهم التي يوجّهونَها إلينا بخصوص حرصِهم على تمكينِنا من حقوقِنا الفرديّةِ وما تنهضُ عليه من خُصوصياتٍ؟ ومدى أحقيّة تجريمِ الكلِّ بفعلِ واحدٍ؟ ولن ننسى سؤال قادتنا: متى ستكشفون سِرَّ حقائبِ الغرب؟ *** يبدو أنّ نشرَ عَولمةِ الأفكار وتعرِيةِ معانيها الثاويةِ في خطاباتِنا اليوميّةِ وحتى تلك التي تسكنُ أحلامَنا لم يُرْضيا نهمَ ساسةِ أمريكا والغربِ في نهشِ مستورِنا الجسميِّ " سترُك اللهمّ"، فابتدعوا سبَبًا جديدًا وراحوا ينهشونَ فينا أسرارَنا وخفايا أجسادِنا التي حرَّمنا إلاّ على حبيباتِنا. وكأنّ عولمةِ الأفكار كانت تمهيدًا لعولمةِ التعرّي، بل لكأنّ الغربَ في تواصُلِه معنا يقول للواحد منّا "تَعَرَّ حتى أعرِفَك".