كنت قد قرأت للمبدعة سلوى النعيمي نصوصا ومقالات متفرقة هنا وهناك، وأغوتني، على التو، طريقتها في الكتابة وأسلوبها في التعبير ورؤيتها لعالم المعنى والأشياء .ولما تعرفت عليها كشخص من لحم ودم، وليس كشخصية من ورق ، في إحدى دورات مهرجان الرباط في طبعته الأصلية قبل أن تصبح منحلة توطدت الصداقة بيننا وترسخت، واشتدت عراها . إذ وجدتها سيدة رائعة، رقيقة الحاشية، لينة الطبع، رائقة المزاج، طيبة المعشر، تمشي الهوينى بخطى ثابتة ولسان حلو فكه مبين، وسحر من الجمال الشامي لا تكاد تخطئه العين. ومن ثمرة هذه الصداقة الأليفة كنا نتبادل، بين الفينة والأخرى، ما يكتبه كل واحد منا وتجود به قريحته إما إبداعا خالصا أو بحثا نظريا صرفا أو ما بينهما . واستمر الحال على نفس المقال . إلى اليوم الذي بعثت فيه إلى بنسخة من روايتها « برهان العسل» من باريس ممهورة بعذوبة: العزيز طايع في بلاد العسل .. تحية المحبة والتقدير» وهأنذا، في هذا التقديم ، أرد التحية بالتحية اعترافا بجميل هذه الصداقة وتقديرا مبجلا بالكاتبة سلوى واحتفاء ببرهانها الذي لا يخيب وفي العسل يصيب ******************* .في الشكل « النكاح سار في كل شيء» ابن عربي يمكن اعتبار نظام التبويب ، الذي استندت إليه رواية «برهان العسل « لسلوى النعيمي1 في شكل كتابتها، نظاما مألوفا في الثقافة العربية، وصناعة متداولة في عملية التأليف والبحث. ويكفي القارئ أن يتصفح مؤلفا من مؤلفات التراث العربي، أيا كان الموضوع، ليقف على الدليل الذي يرتضيه فيما يخص هذا النوع من الكتابة الذي امتد حضوره إلى الثقافة الحديثة . وأقرب مثال إلى الموضوع هو كتاب الشيخ النفزاوي» الروض العاطر في نزهة الخاطر»2 الذي سار في تأليفه على هذا النظام الذي بين أهميته وفائدته والغرض منه بقوله: « ورتبته على إحدى وعشرين بابا ليسهل على الطالب لكل باب ما يليق به من منافع وأدوية وحكايات ومكائد»( ص 25) ثم يضيف مؤكدا: « وقد جعلت هذا البرنامج ليستعين به الناظر على مراده» (ص 26). ولا يعنينا، في هذا السياق، استقصاء هذه الكيفية في الكتابة وعلاقتها بإنتاج الأفكار وتاريخ الذهنيات على الرغم من أهميتها، بقدرما يعنينا علاقة هذا النظام بالموضوع وصورته في الرواية وتركيبها والقصدية الدلالية التي تتوخى إيصالها للقارئ. تتمفصل البنية العامة للحكي في الرواية بين المبنى والمعنى إلى أبواب تساق على هذا النحو: 1- باب أزواج المتعة وكتب الباه 2- باب المفكر والتاريخ الشخصي 3- باب الجنس والمدينة العربية 4- باب الماء 5- باب الحكايات 6- باب المدلكة وزوجها الزاني 7- باب شطحات الجسد 8- باب زمن التقية في المجتمعات العربية 9- باب اللسانيات 10- باب التربية والتعليم 11- باب الحيل إذا استثنينا البابين الأول ( أزواج المتعة وكتب الباه) والأخير ( باب الحيل): الأول : باعتباره مدخلا لعوالم الرواية وانبثاقا للسرد وعرضا لمقاماته والتعريف بجزء يسير من الفواعل المؤثرة فيه. والأخير: بوصفه ختما للحكي وكشفا للعبة السرد وحيل الكتابة وحلا لمسائلها وعجرات عقدها . فإن الأبواب التسعة الأخرى تتصف، في تقديرنا، باعتباطية شكلية تسم البناء وتردد الموضوعة وتكرارها. وهو ما يشفع لنا بإمكانية افتراض تقطيع مغاير لها وإعادة ترتيبها ترتيبا جديدا يأخذ بعين النظر محمولات الشخوص وعلاقاتها البينية، واستقلال بعض الحكايات المعروضة والموضوعات شبه- التقريرية وقابلية انصهار العناصر فيما بينها واتساق المحتوى واتحاد الشكل بالإضافة إلى الوسائط اللاحمة لدفة الأبواب. إذا سلمنا بهذه المعايير السردية والموضوعاتية والوسيطية يمكن للتبويب |أن يأتي بهذه الصورة: I المقطع : باب أزواج المتعة وكتب الباه باب شطحات الجسد باب الماء باب المفكر التاريخ الشخصي II المقطع : باب اللسانيات باب التربية والتعليم باب الجنس والمدينة العربية باب زمن التقية في المجتمعات العربية III المقطع : باب الحكايات باب المدلكة وزوجها الزاني IV المقطع : باب الحيل ويمنحنا هذا التوزيع الجديد للأبواب تقطيعا رباعيا للرواية يتكون من أربعة مقاطع - أو متواليات- يمكن الاصطلاح على تسميتها بهذه العناوين: I المقطع : التاريخ الشخصي للرلوية II المقطع : الخطاب والإحالة III المقطع : المادة الحكائية : النص والسياق IV المقطع : حيل الكتابة وهذه المتواليات السردية ليست مكتفية بذاتها ومستقلة كل الاستقلال بقدر ما هي متشابكة العلاقة متواشجة الروابط. اذ كل متوالية تتمم الأخرى وتدعمها وتتعاضد معها نصيا . كما سيتبين من هذا التفصيل. I المقطع : التاريخ الشخصي للراوية. من سمات الراوية البارزة، في هذا المقطع الأول، أنها راوية عاشت طفولتها في مدينة دمشق السورية، وتلقت تربية طهرانية تقليدية أثرت على تكوينها الشخصي وجعلت منها شخصية منقسمة على نفسها تعيش ازدواجية متأصلة، حتمت عليها نهج لعبة التقية كقناع لمواجهة الذات والمجتمع والعالم. ولم يمنعها الوسط التقليدي الذي ترعرعت بين أحشائه من الاطلاع على بعض نسخ كتب التراث الجنسي ثم الأدب البورنوغرافي الغربي والشرقي على السواء. مع ميل شغوف بكتب التراث العربي في هذا الموضوع: « كيف يمكنني ألا أكون بنت هذا التراث «( ص 30) ولهذا لا تجد غضاضة لكي تجمع في جبة واحدة بين التيفاشي والنفزاوي والطوسي وباتاي وميللر ودوساد الخ والاستشهاد بنصوصهم وبنصوص كتب الحب والنكاح في الثقافات الأخرى والعمل بأفكارهم قولا وفعلا. والاقتداء بهم عندما تعترضها مسألة من المسائل (كالحب والعشق مثلا) حيث ابن عربي وروني شار يمدانها بالجواب الصائب وينيران لها طريق المعرفة ويفتحان لها باب التأمل لتوصده على كيان شخصية لا تعير للحب معنى ومبنى ما دام ينتهي إلى عالم الميتافيزيقا الذي يناقض، كليا، عالم المادة والحس الذي تؤمن به وتتمثل مقدماته في الرغبة واللذة والشهوة والمتعة وحدها الأوسط: الجسد. الجسد المعرف في ماديته وكيفياته المحسوسة المنفصل، من جهة فصله ، عن الروح المتعالية في الأدبيات المتداولة: « هناك من يستحضر الأرواح، وأنا أستحضر الأجساد «(ص 13). إنه إعلان إشهاري وإعلان مبدأ ومعرفة في الوقت نفسه وما خلاه فسلب ونفي: «جسدي هو ذكائي ووعيي وثقافتي» (ص 35) ومن هذه القاعدة أو المقدمة المثبتة تنتج كل المعادلات القياسية لأشكال العلاقة: « من يشته جسدي يحبني» « من يحب جسدي يشتهيني» (ص 35) إن الجسد بوصفه اشتهاء وحبا هو محور كل علاقة مفترضة لأن الحب الوحيد الأوفى المتفرد الذي تقر بوجوده هو حب الجسد وشهوته وماعداه فخراب للروح وما يتضايف معها في عالم المثل الأعلى. وقد عمقت الراوية هذا المعتقد الدهري لمادية الجسد حين ذهابها إلى باريس ، عاصمة النور والمعرفة والحرية، وأمسى ما تعزه في حياتها الخاصة وأشهى ما تتباهى به في عالم اللذاذة هو لذتها النابضة والمشتدة بين ساقيها والتي تبحث عمن يطفئ جمارتها كلما سنحت الظروف بذلك لأن الملذ هو موضع ومصب العسل في جسدها: « يكفي أن أغمض عيني حتى أتذوق عسيلة اللذة وأتلمظ بطعمها»( ص 100) وهو أيضا علة الوصلة الحميمة بينها وبين المفكر الذي اعتاد: «أن يمد إصبعه بين ساقي يتفقد العسل»(ص30) بل يصر أن : « يتذوق عسلي بجدية راضية» (ص30). فالشهوة قائمة دوما في ملذها المطبوع باللذاذة وتجري منها مجرى الدم. وقد أضحت العلاقة بينها وبين المفكر مبنية على الجنس المؤثث بالشعر والنقاش الثقافي الحميمي وتحول، مع مرور الزمن، إلى مرآة صقيلة ترى فيه نفسها أو ذاتها الثانية المتواطئة في ذاتها الأولى المتجردة من كل غنج واعتبار: « المفكر قرين عريي»(ص 94) فهو شبيهها وقسمة ذاتها وطيفها الحسي ومجازها إلى عالم الإمتاع والمؤانسة ، وبفعل تأثيره العاطفي انشطرت حياتها إلى شطرين: ما قبل المعرفة الشخصية بالمفكر حيث الجاهلية الأولى، وما بعد المفكر حيث أصبحت تعيش نهضة جنسية وفورة غرامية وثورة تحررية لامرجع لها إلا أناها كأنا مركزية في محيطها. أناها الجوهرية والفيزيائية المتبلورة كيميائيا من العناصر الثلاثة: الماء، والمني والكلام. العنصران : الماء والمني يوحيان بالحياة والعنصر : الكلام يوحي بالعلاقة بهذه الحياة أي التواصل . وكلاهما- الحياة والتواصل ? أساس الوجود وصور أيقونية تستحضر مكوناتها في رسم نهاية سعيدة للمدى الأنطولوجي: « لن أموت إلا في مدينة عربية على البحر»(ص 51) والبحر ماء وحركة وإيحاء جنسي لا ينتهي. المقطع II : الخطاب والإحالة. يعرف اللسان، في هذا المقطع، بوصفه أداة تواصل وتعبير ووسيطا بين الذات المتكلمة وعالم الأشياء والأشخاص الذي يحيط بها ويكتنف صيرورة وجودها . وتعرف اللغة باعتبارها منظومة من الدلائل ومؤسسة اجتماعية تبدو متعالية على الأفراد المتكلمين بها والذين يتشكلون في كيانات مندرجة في عشيرتها اللسانية. فاللغة سواء في التعليم والقراءة والكتابة أم في عمليات التخاطب اليومي والوضعيات التواصلية تحدد بوساطة قنوات متعددة لعل أظهرها الأسرة والمدرسة والعمل ووسائط الاتصال الحديثة (الحاسوب، الانترنيت الخ) . ونتيجة لهذه المكانة المتميزة للسان ، لغة وكلاما، أحللناه المرتبة الثانية في هذا الترتيب المقطعي لأنه يلعب دورا وسيطا بين التكون الشخصي للراوية وانفتاحها على ذاتها وعلى العالم الخارجي من حولها داخل الكون السردي والخطابي وتشكلات المتخيل. ونحن نعتقد بأن القارئ لا يجد أدنى صعوبة في إدراك أن الراوية الدمشقية- الشآمية تعتبر اللغة العربية عنصرا متأصلا في كينونتها وبنية ثقافتها . وأن قيمة الجسدانية التي تشدو إليها وتصبو إلى تحقيقها، في الواقع العيني، ترتبط عضويا بتجذر هويتها التراثية الجنسية التي تتمثل المباح ورفع حجاب الحرج في الحديث عن أعضاء الإنسان الحساسة وأوضاع الجماع وصيغ الأنكحة. أو لم يكن الشيخ النفزاوي، المذكور سابقا، قاضيا للأنكحة في تونس حين تأليفه لكتابه المذكور سابقا؟ والعلامة الجاحظ، بكل قامته المعرفية الشامخة وثقله التاريخي، ألم ينشئ في الموضوع نفسه رسائله، وبصفة خاصة، الرسالتين: الثالثة عشرة والرابعة عشرة؟ وهو لا يقصد من تآليفه إلا الشرح والإفهام وإثبات فرضية أن:»الإنسان علته الإنسان» . وتطول القائمة التي تضم شيوخ ومعلمي وأصدقاء الراوية الذين أشرنا إلى البعض منهم في المقطع الأول. فلماذا، إذا، الشك في مقاصد الكلام وفي حسن النوايا؟ ولماذا هذا النسك والتقشف، وهذا التقزز والانقباض عند سماع مثل هذا الحديث أو قراءته أو محاولة العمل به؟ إن راويتنا الشآمية تستجيب ? إيجابا ? لهذه الأسئلة وتنحاز لهذا الموروث الثري وللغة العربية التي خط بها ونقلت ذخيرته إلينا على مدار القرون، إنها لغة أثيرة لديها للكشف عن المكنون والمستور الذي أضحى يباين كل سلطة رمزية ومنظومة معرفية في المجتمع الذي عمل على إنتاجه . وأداة تعبيرية فصيحة تجود كل أنواع الكلم عن نبضات الجسد الرغبوي وتعزز حجج براهينه في مواجهة قيود ومواضعات السلم القيمي للأعراف السائدة. من هنا هذا القول التقريري: « العربية هي لغة الجسد عندي» (ص 21) وإذا كانت الألفاظ قد وضعت للدلالة على الأشياء في معناها الأول، فإن القاموس الجنسي الذي اكتسبته من كتب التراث لا يعترف به المجتمع ولا يقر بتداوله، في الفضاءين العام والخاص، مع التأكيد أن ألفاظه قد وضعت ليستعملها أهل اللغة وحتى هذا الاستعمال الطبيعي، الذي يشير إليه الجاحظ ، لا يسمح به فبالأحرى أن يعتد به بعيدا عن كل أشكال الرقابة وصنوف الإكراه، البدني والخطابي، الذي يمهد لتفشي ظواهر ثقافية مبثوثة في تصرفات الأفراد والجماعات في منظومة مثنوية يحدها السر والعلانية، الاختفاء والظهور، الصدق والكذب، الحقيقة والزيف الخ, ومظاهر لغوية كالتحريف والتصحيف والترجمة والتعجيم الخ.3 ويزداد الوضع تعقيدا إذا علمنا أن المؤسسة التعليمية والتنشئة الاجتماعية في العالم العربي تكاد تخلو من كل تربية جنسية سليمة يمكن للنشء أن يستثمرها في حياته العملية. فالفرد، في ظل هذا الفراغ التربوي، يرمى به لحال سبيله في تدبير أموره الحميمة تماما كحال راويتنا الدمشقية التي ، وإن تعلمت، لم يلقنها التعليم شيئا ولم تأخذ عن أمها وفي البيت ما ييسر لها العلاقة بالرجل أو ما تعرف به ذاتها، على الأقل على غرار وصية تلك العجوز لابنتها، كما يرويها الجاحظ ، أو السير على خطى مذهب حبى المدينية التي علمت نساء المدينة معنى الوثب والقبع والغربلة، وفي أشباه الأحوال اتباع سنة الرسول(ص) في شرح معاني القبلة وأوضاعها برواية زوجه عائشة. فالتربية التي نشأت عليها في مرابض طفولتها تربية مدخولة منغولة: « التربية المخصية التي ربيت عليها»(ص22) فكان مطروحا عليها أن تعتمد على مؤهلاتها الذاتية ومهاراتها المعرفية والتجريبية في إعادة تربية نفسها وفق مشيئة إرادتها بوساطة التجربة والخطأ، والاختلاط بالرجال والنساء، واقتناص أفلام ومجلات الجنس زمن إقامتها في باريس، والتهام كتب التراث بغية استكمال عدتها النظرية والعملية، وتخطي بؤس الجنس وعصر انحطاطه والحجر عليه في مجتمعها، كما تقول، إلى درجة أصبحت معها هذه الكتب مكونا من مكونات كينونتها: « هذه النصوص جزء من حياتي الجنسية(ص22) وإن بقيت لا تجرؤ على استعمال كلماتها ورصغ تعابيرها والتأشير إلى صور الأوضاع التي تعينها والوصايا التي تريد أن تدعها تستقر في صدور قرائها وتوغل عميقا في سويداء قلوبهم. ولا تخفى الفكرة المضمرة في أقوال الراوية وهي أن «حرية التعبير» عند شيوخها في مامضى من تاريخ أقوى وأوكد منها في الزمن الحاضر. ولهذا الغرض انكبت على قراءة هذه الكتب والأخرى المترجمة وكونت معها ألفة حميمة في خلوتها واستلهمتها في إقامتها وترحالها إلى أن حصلت منها على ما يشبه لغة سرية مشفرة يستعصي على المرء تفكيك سننها وفهم رسالتها إذا احتكم إلى ما تمده به المقامات التواصلية العادية. وكان من الطبيعي أن ينتج، أيضا عن هذه البيئة الثقافية، أشكال من التعامل منها أسلوب التقية في الفكر والممارسة كأسلوب مطابق لعالم المعنى القائم ووليد القيم المهيمنة في الواقع: « أنا بنت التقية»(ص72) التقية التي لم تنج منها، حتى الوسائل الحديثة في التواصل: « الحاسوب نفسه برمج بالتقية لعدم تعرفه إلى الكلمات الحساسة»( ص118) وقلنا « الواقع» الذي يحيل، من الناحية السوسيو- نفسية، إلى تاريخ متراكم من الكبت الذي ينجم عنه، مباشرة، تاريخ متواصل، قاس وعصي، من المقاومة، ولا يتنافى هذا المنحى في التاريخ والقول إن العرب هم الأمة الوحيدة في العالم التي تعد الجنس نعمة ( ص43). لأنه ملفوظ تقريري وتصريحي مبين في مظان الكتب القديمة وفي تصور الجاحظ للموضوع الذي يبيح الحديث عنه بسبب هذه الخصلة. وما إشاعة ارتداء الحجاب وبروز مفهوم الجهاد والآثار الناتجة عن حدث 11 سبتمبر واستعظام الطائفية والانقسامات الدينية، التي تعارضها الراوية، وإنزال بعض الآراء منزلة القول الحق كالإسلام والجنس لا يجتمعان، واستحضار صورة الشرق كما عاينها الكاتب كوستاف فلوبيرالخ, ما هذه الظواهر والأحداث والصور إلا عبارة عن تشكلات زمنية مدغومة في صيرورة التاريخ الاجتماعي والسياسي وليس في إمكانها الاستحواذ على مقومات الطبيعة البشرية وتحويل مسار مجراها وإن ظلت هذه الطبيعة مرهونة إلى : « مجتمع لا يعرف إلا التقية وإعلانات الرضوخ» (ص24) وما شابهها من مظاهر عضوية ملازمة احتمالا للكائن البشري ( العجز الجنسي، غشاء البكارة الخ) والتي قد تتخذ طابعا اجتماعيا وأخلاقيا تبعا للمجتمع الذي يعيش في أحضانه هذا الكائن. إن التلميح والتصريح إلى هذا النوع من الأحداث الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، التي تشمل نصوصا روائية ورحلية يقصد منه ربط النص بسياقه وتأثيث متخيل الرواية بوقائع إحالية جرت فعلا في الواقع الحي لزمن الرواية الحدثي. فوظيفة هذه الإحالة استيضاح الخلفية المرجعية لأقوال الراوية وشخوصها وإيهام القارئ بطابعها الواقعي الذي يحد من سطوة المتخيل وإيلاء المحسوس قيمة الاعتبار في السرد، في انسجام تام والنظرة المادية للجسد، ديدن الراوية الأثيل. [email protected]