إنّ أصعب شيء في الكتابة الصراحةُ، وبتعبير André Gide، فإنّ أصعب شيء يواجهك وأنت تكتب هو أنْ تكون صريحاً؛ ومِمّا لا شكّ فيه أنّ أعلى درجات الصراحة أنْ يسائلَ الكاتبُ نفسَه ويعاتبها، ليس من بابِ التحقير ولكن من بابِ التشجيع: "ألمْ ترَ مئات الكتبِ القيّمة التي كُتبت؟ ألمْ ترَ ما في نصوص أولئك الأدباء من عمقٍ لا يدركه إلاّ الرّاسخون في الأدب؟ جزالة اللفظِ ومتانة المعنى وقوة الرسالة وقارن ما رأيته بما خطّتهُ يداك! ركاكةَ نسيجك الأدبي. رتابةَ الشكل وسقامةَ المضمون! ما الجديد فيما كتبته؟ وما القديم الذي أعدتَ صياغتهُ ؟ ما الفائدة ؟ " إنّ فعل الكتابة فعلٌ مضنٍ وشاقّ، يضعكَ أمام فوّهة من الصّعاب والتحديّات. إن الكتابة تمنحنا الشعور بالامتلاءِ. لكن هذا الامتلاء لا يتحقق إلا بعد أن يقضي الكاتب ساعاتٍ طِوال في كتابة وتنقيح ومراجعة نص ما... إلاّ بعد أن يفرك فروةِ رأسه كالمجنون... إلا بعد أنْ يمرّ بنوباتِ غضب بسبب خطأ ثمنهُ باهض...كأنْ يمحوّ سهواً نصا كلّفه جهدا عظيما... الكاتب مُجبر على السيرِ فوق الأشواك بغيةَ تشذيب نصوصه كما يقضّب المزارعُ أغصان الأشجار وألْحيّتها حتى تصير نضرةّ وتظهر بمظهر البهجة والطراءة. تستحق الكِتابة ما وصفه بها الكاتب " همنجواي"، حينما قال إنّ الكتابة شيء سهل، إنّها تقتضي فقط الجلوس على كرسيّك والبدء بالنّزيف... هناك نصوص أدبيّة تصدق على كتّابها مقولةُ "همنجواي". نصوص خرجت من رحم التعب والمعاناة، إذْ إنّ بناءَ اعمقِ المعاني على أيسر المباني وأمتنها لَأمرٌ عظيم لا يُحسنه إلاّ من ارتوى من منابعَ أدبية مختلفة. هذه الثقافة الأدبيّة الواسعةُ هي ما يقوّي ملَكة الابتكارِ لدى الكاتب فيُكَوّنَ بفضلها قريحةً أدبية يلجأُ إليها لِبناءِ نصوصهِ بناءً مُحكماً، يقرأها من يقرأها فيتضحُ له أنّها نصوص رسمتها يدُ فنانٍ فزيّنَ معانيهَا بحلِيِّ البيانِ.
تأسرُ هذه النّصوصُ القُرّاءَ لما يجدون فيها من سردٍ متسلسلٍ سمتهُ الأساس السلاسةُ؛ وآية ذلكَ أنّك، وأنتَ تقرأ النص، لا تحسُّ بعائقٍ يَحُول دونَ تقدمكِ في القراءة ولا بعنصرٍ دخيل قد يعقّدُ النسيجَ السرديّ الذي أحكمَ الكاتبُ وِثَاقَهُ. هناكَ أمرٌ يفسرُ سلاسة السردِ ؛ إنّها اللغةُ العاليّة التي يلجأ إليها صانعو التّحف الأدبية والملاحمِ الرّوائيّة؛ لغة سائغةٌ تنأى عن التعقيدِ وبعيدة كلّ البعدِ عن الركاكة والابتذالِ. تلكَ هي اللغة العاليّة التي تؤمنُ بأنّ الجمعَ بين الثابت والمتحولِ امرٌ مطلوب وأنّ التّوليف بين التقليدي والعصريّ امرٌ مرغوبٌ وأنّ اللفظَ القديم العتيق لا يعارضُ الجديد المُستحدث إذا أحْسَنّا استعمالهما على الوجهِ الذي يكون فيه المعنى مُبيّنا. اللغة العاليةُ تقيمُ لِلّفظ القديمِ وزناً، لكنها تفردُ مساحةً للجديدِ؛ ذلكَ أنّ الواقعَ يتغير ويفرض على الكاتب الاستعانَة بمعجمٍ يُعينهُ على التّصويرِ كما يريدُ؛ فالخيالُ لمْ يسمَّ خيالاً إلاّ لأنّه لا يجوز-ولا يمكن- تقييدهُ؛ واللغة الأدبيّة تعدّ التخييلَ ركنا من أركانها. يحدثُ انْ تجد كاتباً يطمح لتحقيق أمجاد أدبيّة من خلالٍ الاستناد على معجم لغويّ عتيقٍ حتّى يقال لهُ وعنهُ: فلانٌ، لفظهُ جزلٌ وأسلوبهُ متينٌ، أميرُ القوافي ونبيّ الكلماتِ، يقتفي أثر الأولين وينسجُ على منوال الأدباء القُدامى. لكن ، للأسف الشديد، بعض هؤلاء الكُتاب يكتبون والمعجم بين أيديهمْ، فتراهم يطيلون النّظر في صفحاته قصدَ الظّفر بلفظٍ جاءَ على لسانِ أحد الشعراء الجاهليينْ أو طمعاً في جملة قِيلتْ في كتبِ المتقدمّين؛ فما يلبثُ أنْ ينتزعَ تلكَ الجملة انتزاعاً فيقحِمُها في نصّه ؛ فيكون بذلكَ كمنْ اجتثّ نخلةً من " درعة" ليغرسها في "تطوان" والنتيجة لن تكون إلاّ مؤلمة: حرمَ منها أهل درعة...ولنْ تُثمر في بلادِ تطوان. إنّ الكتابةَ بنية متكاملةٌ لا تقوم على اجتثاث الألفاظ من المعاجم. إنّ الأديب لا يكون أديباً إلاّ بالبيانِ. ونقولُ إنّ البيانَ تصنعهُ المطالعةُ والقراءةُ الموزونة للأدب العتيق الأصيل و لِوروّاده الجدد، نساءً ورجالاً، شيباً وشبّاناً، فضلاً عن قوةِ الخيالِ الذي يتولّدُ عنه عمق التصوير فتتوالى الاستعارات و المجازات المتقونة مبنىً ومعنىً خدمةً للبيانِ ، دون انْ ننسى ضرورة الاطّلاعِ على ما كتبه غيرنا، فالقراءة والكتابة توأمانِ لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر. حقيقٌ بالكاتبِ أنْ يوسّع دائرة قراءاته شكلاً ومضمونا. هؤلاء الكتّاب الذين يعتمدون لغةً عاليّة، يتضح لك من خلال منتوجهم الروائي أنهم يسردون الأحداث الأصليّة والفرعيّة بمرونةٍ عزّ نظيرها. أمّا وصفهم فمُحكم لا محالة،إذْ إنّهم يعلمون أنّه وسيلة تُمكّنهم من كشف المضمرِ وتفكيك المقيّد. إنّ من أوضحِ معاني الوصف الكشفُ والإظهارُ؛ والكاتب المتمرّس يحسن استعماله بغية الكشف عن الحالة النفسية للشخصياتِ وتقريبها للقارئ، فيصبح النص لوحة تُرَى ملامحُها، لا سيّما إذا كان الوصف شاعرياً يُناسبُ الحالة الوجدانية للشخصيات و يعبّرُ عن خلجاتِ النّفوسِ وأساريرِ الجباهِ. الكاتبُ الوصّافُ هو القادرّ على تحريكِ الجامدِ من الصور وإحياء الميّت من المَشاهدِ وتقريبِ البعيدِ فيُخيّل إلى القارئ أنّ النص الذي بين يديه فيلمٌ يشاهده بعينيهِ ويتفاعلُ مع صوره بعقلهِ ووجدانهِ ويتأثّر بمآلاتِ شخصياتهِ ويسائل نفسه لو كان بإمكانهِ تغيير مصائِرها. تلكَ صفة الكاتب الفذّ : القدرة على خلق نوع من الانصهارِ بين القارئ والنص...