لم تكن الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام في حاجة إلى تقرير يرصد طبيعة أدائها المهني خلال الفترة الأخيرة، التي تزامنت مع رزمة من الأحداث الكبرى التي هزت أركان عرش العالم، للتأكد من تجردها وانسلاخها عن أبسط الشروط المهنية والأخلاقية المتعلقة بالرسالة الإعلامية النبيلة، بل يمكن المجازفة بالقول باستحالة رصد جميع الخروقات والانتهاكات المهنية والأخلاقية التي اقترفتها مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام الفرنسية، ومن خلالها كثير من وسائل الإعلام الغربية بصفة عامة، التي بدت أنها دخلت بيت الطاعة عن طواعية، وافتقدت قراراتها السيادية، وتحولت في كثير من المرات إلى وسيلة طيّعة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية لدولها. لذلك كله وغيره كثير، فإنه رغم الإقرار بالأهمية الكبيرة التي اكتساها التقرير الذي أصدره المجلس الفرنسي للوسائط المتعددة، والذي رصد من خلاله أبرز محطات هذه الاختلالات والانتهاكات والخروقات التي اقترفتها كثير من وسائل الإعلام الفرنسية بالخصوص، فإن ذلك لا يعفي من القول بأن الخرق اتسع على الراقع، وأضحى من العسير إنجاز رصد كامل ونهائي وموضوعي لما اقترفته أيادي كثير من الصحافيين الفرنسيين، ومن خلالهم حشد من الصحافيين في العديد من الدول الغربية، والذين نصّبوا أنفسهم لعقود طويلة من الزمان حراسا لمبادئ وأخلاقيات الصحافة والإعلام، وعبرها حماة للديموقراطية ودولة الحق والقانون ولحقوق الإنسان بمفهومها الكوني، إلى أن أجبرتهم الأحداث الكبيرة والقوية التي استجدت في العالم، هناك في أوكرانيا، وهنا في غزة، على أن يخرجوا للرأي العام عراة وحفاة. وهكذا، لم يعد غريبا مثلا ملاحظة معاداة كثير من وسائل الإعلام الفرنسية لكل ما يرتبط بالدين الإسلامي، الذي أضحى مدانا من حيث المبدأ. وفي هذا الصدد، لاحظ تقرير المجلس الفرنسي للوسائط المتعددة ما وصفه ب"الانحراف الخطير الذي تشهده المعالجة الإعلامية في فرنسا على خلفية المعالجة المتحزبة والموجهة للمعلومات، والتي تهدف إلى جعل الإسلام والمسلمين مصدر قلق كبير للمواطنين من خلال بث الخوف والتحريض على الكراهية". وزاد التقرير في التفاصيل بالقول "إنه أصبح واضحا في وسائل الإعلام الفرنسية أن التعامل مع خبر يحمل فيه المشتبه به إسما عربيا، مسلما، يكون مغايرا تماما لمشتبه به يحمل إسما غير مسلم)، موضحا أنه في الحالة الأولى تنطلق الآلة الإعلامية لتبحث عن مدخل لربط ذلك الخبر بالإسلام، حتى وإن لم تكن هناك علاقة بالأمر. واستدلّ التقرير بحادث الهجوم بالسكين الذي وقع في أستراليا قبل أيام قليلة من اليوم، وأدى إلى سقوط ست ضحايا وإصابات ضمنها حالة طفل، إذ سارعت قناة (سي نيوز) الفرنسية التي استضافت متخصصين على الهواء مباشرة والذين ركزوا على الأصول الشرقية للمشتبه به في هذا الهجوم. كما ذكّر التقرير بالتحقيق الذي أجرته صحيفة (ميديا بارت) الذي فصّل في هذا الانحراف الإعلامي، وكشف الصحافي المحقق عن معلومات خطيرة من قبيل أن رئيس تحرير قناة (سي نيوز) الفرنسية كان يوجه إلى فريقه التحريري عبر تطبيق (الواتساب) مجموعة من التعليمات المحددة لطريقة معالجة خبر ما، من قبيل أنه أمرهم في إحدى المرات بعدم تغطية قضية (شوليت) "إن لم تكن هناك إشارة إلى القرآن". وحتى حينما تم تكوين لجنة تحقيق بطلب من نواب فرنسيين، على أن تقدم نتائج عملها في نهاية الأسبوع الأول من شهر يونيو (حزيران)، ورغم أن اللجنة عقدت فعلا جلسات استماع طويلة ومعمقة مع بعض من مسؤولي القنوات التلفزية الفرنسية، إلا أنها اختفت بصفة مفاجئة وتعطلت أشغالها، وبات من المستبعد أن تنهيها في الموعد المحدد، والسبب فيما حدث، أن مراكز القرار السياسي الفرنسية وغير الفرنسية تدخلت بقوة للإبقاء على خضوع وسائل الإعلام داخل بيت الطاعة. وتكفي الإشارة إلى قوة تدخل مراكز القرار السياسي والمالي في الأداء المهني، بعدما اقتيد رئيس لجنة التحقيق نفسه كضيف إلى إحدى القنوات التلفزية الفرنسية (سي 8) ليطعن في أعمال اللجنة ويكشف عن أسرارها. طبعا، لم يكن في يوم من الأيام، الإعلام الفرنسي قدوة في الأداء المهني والأخلاقي، ولا مرجعا في الممارسة المهنية السليمة والنظيفة والمستقلة، وتكفي الإشارة في هذا الصدد، إلى أن التاريخ الاستعماري لكثير من وسائل الإعلام الفرنسية لا يختلف في شيء عن التاريخ الاستعماري للدولة الفرنسية، وأن وسائل الإعلام هذه سخرت عن طواعية لبسط الهيمنة الاستعمارية ضد العديد من شعوب العالم المستضعفة، وكانت من أدوات المد الاستعماري، لذلك الاستغراب اليوم، ليس فيما تقترفه كثير من وسائل الإعلام الفرنسية من انتهاكات وخروقات خطيرة على المستويات المهنية والأخلاقية، ولكن الاستغراب يكمن في القدرة الفائقة لوسائل الإعلام هذه على امتلاك ما يكفي من مخزون ومنسوب الوقاحة مما يضمن لها مواصلة ما تقوم به من جرائم حقيقية ضد المجتمع وضد المهنة النبيلة دون أن يحمر وجه واحد من وجوه أشباه الصحافيين المتورطين فيما يجري ويحدث.