جميل جدا أن ينتقد المواطن أوضاعه الاجتماعية أو السياسية أو الإدارية، أو يهاجم إخفاق بعض المسؤولين في تسيير مرافق الصحة أو العدل أو التعليم، لأننا نعتقد بأن هذا الانتقاد، وهذا الهجوم إنما هدفهما الإصلاح، وأن المواطن يضطر إلى هذا السلوك مكرها بعد أن شعر بأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت. لكن أن يتخلى هذا المواطن عن هذا المنهج في النقد، وأن يعمد، بالمقابل، إلى نهج طريق آخر لإظهار استيائه من السياسات العمومية؛ وذلك بأن يعمم انتقاده، بل وأن يتجاوزه إلى جلد ذاته الوطنية واحتقارها، والإمعان في إهانة بلده وتاريخه ونسائه ورجاله، فهذا هو الحمق بنفسه، والبلادة بعينها، والغباء شخصيا، والجهل بكل ما تحمله الكلمة من المعاني والدلالات.
ومن أبشع صور جلد الذات التي يمارسها بعض المواطنين بوعي منهم أو بجهل وغباء وقلة حياء، هو كتابة منشورات قصيرة ينالون من خلالها من بلدهم، أو من صناع تاريخهم المجيد، أو من نوابغهم ومفكريهم وفنانيهم وغيرهم، بحيث يظهرون شعوبا ودولا - غالبا ما تكون أوربية أو غربية عموما – في حالات سوية نفسيا وعقليا وحضاريا، ثم يقارنوها بشعبنا ومجتمعنا ودولتنا، متهمين بلدهم؛ بجميع أبنائه هكذا، بالتخلف والانحطاط الأخلاقي، وبتهم أخرى نخجل من ذكرها. وهذا مرض نفسي يعاني منهم أصحاب هذه المنشورات القذرة التي يوزعونها عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي؛ وخاصة عبر تطبيق "الواتساب"، وسفه ينبغي التوقف عنه لكونه يؤدي إلى إهلاك الذات وإلحاق الضرر بالبلاد والعباد.
ونحن إذ لا ننفي أن بلدنا قد أخفق في إنجاز بعض الخطوات في السياسة والاجتماع والصناعة والاقتصاد، وأنه لم يقم بما من شأنه أن يحسن صورته في بعض الميادين وخاصة تلك التي لها صلة قوية بحياة الناس الاجتماعية، إلا أنه حقق إنجازات شتى في مجالات أخرى، وأثبت - مقارنة ببعض الدول المشابهة له - على أن طريقه التي قطع فيها أشواطا كبيرة صحيحة، وأن غده يتغذى بمؤشرات طيبة أقواها مؤشر التغيير بمفهومه العام. ثم إن الدول الغربية التي تبدو لنا متفوقة حضاريا، هي الأخرى تعرف إخفاقات كبيرة في مجالات حيوية، منها المجال الأخلاقي والاجتماعي حيث انفكاك الأسرة، وانتشار الشذوذ بأشكاله المختلفة، وتصاعد التهديد بانقراض نسلهم، وارتفاع منسوب الفراغ الروحي ونسبة الانتحار بين أبنائه وغير ذلك. لذلك نرى أننا في هذا العالم لا نتوفر على نموذج لمجتمع أو دولة تعيش المثالية في صورها الكاملة، وإنما لكل مجتمع إيجابياته وسلبياته، ونجاحاته وإخفاقاته، ومواطن القوة ومواطن الضعف.
ومن ثمة، نأمل من بعض المواطنين أن لا يكونوا أعداء أنفسهم، وأن يرحموا ذاتهم الوطنية من شدة الجلد والتعذيب السادي. نعم من حق كل مواطن أن لا يتوقف عن إبداء آرائه بشأن مجتمعه ودولته بأي لغة يختارها أو منهج يعتمده، ولكن بنفَس أخلاقي وغيرة وطنية، ورغبة صادقة في الإصلاح الذي يقوم على المودة والتناصح والعمل.
إن النقد البناء لا يمكن له أن يكون إلا سبيلا إلى الخير والفلاح.