جدَّد الخطاب السامي الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى شعبه، يوم 6 نوفمبر، بمناسبة حلول الذكرى الرابعة والثلاثين لانطلاق المسيرة الخضراء المظفرة، جدَّد الاهتمام بموضوع على قدر كبير من الأهمية، كاد أن يكون غائباً خلال الفترة الأخيرة، بسبب انشغال الرأي العام في بلادنا بقضايا وأمور عديدة وموضوعات شتى، لا ترقى إلى مستوى الموضوع الذي طرحه جلالة الملك. ويتعلق الأمر بالوطنية التي ليس لها سوى مفهوم واحد، هو حب الوطن، والتعلق به، والانحياز إليه، والإخلاص له، والاندماج فيه، والتضحية من أجله، وبالتجاوب مع قضاياه وتبنّيها والدفاع عنها، وإيثاره على كل شيء مهما يكن. لقد كان خطاب جلالة الملك معبراً بدقة وبعمق، عن هذه المعاني السامية، حين قال جلالته في كلمات ناطقة بالحق مؤثرة في النفس بالغ التأثير حدَّد فيها الموقفَ المسؤول بكل الوضوح : »بروح المسؤولية، نؤكد أنه لم يعد هناك مجال للغموض أو الخداع، فإما أن يكون المواطن مغربياً، أو غير مغربي. وقد انتهى وقت ازدواجية المواقف، والتملص من الواجب، ودقت ساعة الوضوح وتحمل الأمانة، فإما أن يكون الشخص وطنياً أو خائناً، إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة، ولا مجال للتمتع بحقوق المواطنة والتنكر لها بالتآمر مع أعداء الوطن«. إن هذا التأكيد الحازم والقاطع، على رسم الحدود الفارقة بين الوطنية وبين الخيانة، وهذا الوضوح الشفاف في وضع الأمور في نصابها، وهذه الصراحة المسؤولة في تحديد معالم الطريق والتمييز بين الحق والباطل وبين الإيمان بالوطن والكفر به كل ذلك يضعنا أمام مسألة شديدة الحساسية، آن الأوان لمعالجتها بروح المسؤولية، لأن المرحلة الدقيقة التي نمرّ بها، تقتضي أن يصارح بعضنا بعضاً، وأن نجدد وطنيتنا، وأن نتأمل ونراجع مواقفنا إزاء القضايا الوطنية الكبرى، وفي المقدمة منها قضية الوحدة الترابية المقدسة بكل المقاييس. إن مما نلاحظه بكثير من الأسى والألم والحسرة والامتعاض، أن الولاء للوطن بالمفهوم العميق الشامل، قد ضعف إلى درجة تثير القلق على مستقبل الوطن، وأن الشعور بالانتماء قد ضمر ونزل إلى مستوى ينذر بالخطر، وأن الإحساس بالمسؤولية الوطنية التي يتحملها المواطنون جميعاً بدون استثناء إزاء الحفاظ على المقدسات والثوابت والقيم الدينية والمبادئ الوطنية والخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية، قد فتر، وأن حب الوطن قد ضعف على نحو يصل أحياناً درجة الوهن والهزال، مما بات يهدد النسيجَ الوطنيَّ بالتفسخ الذي إذا استمر وطال دون علاج، فإنه قد يؤدي إلى تلاشي الهوية الوطنية. وستكون تلك كارثة لا قدر الله. إن من يقف في الموقف المعادي للوحدة الترابية للمملكة، أو يتخذ موقفاً وسطاً تحسباً للمفاجآت وترقباً لما سيأتي، أو يتظاهر بالتأييد ولكنه يناور وينافق ويخادع بشتى الأساليب، لا نصيب له من الوطنية ولا يستحق المواطنة. وكذلك هو الشخص الذي يعادي ويحارب المقدسات التي يؤمن بها الشعب المغربي، ويؤكدها الدستور، ويحميها جلالة الملك، إنه على النقيض من الوطنية، ولا انتماء حقيقياً له إلى هذا الوطن. وإنَّ من يتنكر للثوابت وللمقومات وللقيم التي تشكل قِوام الشخصية المغربية وقاعدة للدولة المغربية، هو أيضاً لا صلة له بالوطنية، وليس أهلاً أن يتمتع بالمواطنة في هذا البلد، لأنه رضي لنفسه أن ينحاز إلى الصف المناهض للهوية المغربية. وليس من الوطنية أيضاً ولا هو من المواطنة، أن يقف مسؤول في الدولة ويعلن أمام الملأ عن تنكره للغة الرسمية للبلاد وتجاهلها وازدرائها، ويقول بالصراحة الكاملة، إنها ليست شرطاً للهوية المغربية، فمثل هذا المسؤول الذي انتهك الدستور بتصرفه ذاك، كمثل من يرفع راية أجنبية وسط جمع عام، ويعلن أنه ليس من الضرورة أن يرفع الراية المغربية التي حدد الدستور المغربي معالمها بدقة. إنَّ ذلك كله أشكال من الخيانة للوطن، ومن التجرد من الوطنية، ومن الخداع للشعب المغربي، ومن الانحراف عن الجادة الوطنية، ومن الضلوع في التآمر على الوطن مهما تكن الأسباب والوسائل المستخدمة. إن معاداة الوحدة الترابية خيانة وحرب معلنة ضد الشعب المغربي. كذلك فإن الجهر بمعاداة المقدسات الدينية والوطنية وعدم احترام القيم الوطنية الراسخة، خيانة للوطنية المغربية بكل المعاني. لأن من يعادي الإسلام في هذه البلاد ويهاجمه ويزدريه ويشنع ويستهزئ بشعائره وأحكامه ومبادئه بالقول أو بالنشر في الصحف والكتب، يعادي في الوقت نفسه المقدسات جميعاً بما فيها العرش المغربي، ويعادي الشعبَ المغربيَّ برمته. ومن يخون الوطن يخون دينه، لأن حب الوطن من الإيمان. ومفهوم الوطن هنا حتى لا تختلط المفاهيم هو المملكة المغربية؛ فلا وطن للمغربي إلاَّ المغرب. ومفهوم الأمة هنا هو الأمة المغربية طبقاً للدستور. وتحديد هذه المفاهيم في هذا السياق ضروري للغاية. كذلك فإن الدولة المغربية هي الدولة بكل معاني السيادة المطلقة، وليست مجرد (دولة قطرية) في انتظار الوهم الذي سيأتي والذي يسمونه (الدولة القومية). والمغرب دولة وليس قطراً من الأقطار حسب المفهوم المنحرف السائد في بعض الأوساط الثقافية والسياسية العربية. إن الوطنية مفهوم سيادي لأنها روح الوطن وجوهره وهويته. وبالنسبة للمغربي، فإن وطنيته هي ارتباطه الوثيق بالدولة المغربية. وأحب أن أطرح هنا فكرة تلح عليَّ منذ فترة. إن التطرف في الوطنية سلوك محمود وموقف سليم، من غير أن يكون هذا التطرف في حب الوطن وفي التعلق به، مؤذياً لطرف أجنبي بأي شكل من الأشكال. التطرف في التعلق بالوطن وفي الحفاظ على مقدساته وثوابته، قمة الوطنية. فليس كل تطرف مذموم ومرفوض، فحب الوطن لا حدود له، والارتباط بالوطن لا سقف له، والولاء للوطن عقيدة والتزام وانحياز كامل ومفهوم مطلق. وفي هذا الإطار ندرك بعمق ما قاله جلالة الملك في خطابه الآنف الذكر : (لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة). فالمنزلة الوسطى هنا خيانة للوطن يحرمها الدين ويجرمها القانون. فحينما يتعلق الأمر بالوطن الذي هو قيمة مقدسة، إما أن تكون معه، وإما أنت ضده، فلا مجال لموقف التردد، لأن ذلك انهزام وانكسار والتولّي يوم الزحف. والزحف في هذا السياق هو التعلق بالوطن بلا حدود. لقد كان خطاب جلالة الملك واضحاً كل الوضوح وحازماً كل الحزم، حينما قال : (لقد انتهى وقت ازدواجية المواقف، والتملص من الواجب، ودقت ساعة الوضوح وتحمل المسؤولية). الوضوح في الموقف، وفي الانتماء، وفي الولاء، هو القاعدة الراسخة للوطنية التي هي قبل كل شيء مسؤولية وأمانة ورسالة والتزام، تنبني على الصدق في الولاء والإخلاص في الانتماء والتفاني في العطاء.