صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الأرصاد الجوية تحذر من هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    مصرع شخص وإصابة اثنين في حادث انقلاب سيارة بأزيلال    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    بعد ورود اسمه ضمن لائحة المتغيبين عن جلسة للبرلمان .. مضيان يوضح    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين تسلم "بطاقة الملاعب" للصحافيين المهنيين    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة        معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    الدولة الفلسطينية وشلَل المنظومة الدولية    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    الجيش الملكي يمدد عقد اللاعب أمين زحزوح    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ترامب يعين ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية الأمريكي    غينيا الاستوائية والكوت ديفوار يتأهلان إلى نهائيات "كان المغرب 2025"    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كورونا تكشف هشاشة المنظومة الصحية للدول المصنعة وتسقط هيبة العولمة
نشر في العلم يوم 17 - 07 - 2020

1. إطار1.. كورونا باتت تشكل حلقة جديدة في سلسلة التحولات التاريخية التي تعصف بالعالم، و قد تكون سببا في وخز نظام العولمة الذي يملك السلطة ويسيطر على وسائل التحكم في العالم
* إطار2.. تؤثث التراكمات التي أفرزتها العولمة المتوحشة في العقود الأخيرة لبداية نهايتها بعد كورونا، لكن من الصعب التكهن بموعد التحول أو حجمه، لأن التحولات التاريخية لا تتم بعصا سحرية، بل تستغرق لعقود وقرون.
كورونا تكشف هشاشة المنظومة الصحية للدول المصنعة وتسقط هيبة العولمة
هل تمهد الجائحة لبداية تحقيب جيو-إقتصادي وتاريخي جديدين؟
إعداد فوزية أورخيص
اتفق الباحثون والمؤرخون على أن التحقيب التاريخي بوصفه عنصرا أساسيا في فهم التطور التاريخي للكائن البشري ، ليس تحقيبا جامدا، بل هو ملف مفتوح يتجدّد باستمرار، بفضل المتغيرات المعرفية، والانتقالات الحضارية، والأزمات التي تفرض إعادة النظر في التحقيبات السابقة، ومراجعتها وتعديلها، أو إضافة معايير جديدة لتخصيبها.
وتتأسس الوحدة التحقيبية من عناصر مختلفة يأتي على رأسها تغيّر مجرى حياة الناس اليومية، وسلوكاتهم الثقافية المألوفة، ومواقفهم من الظواهر المختلفة، التي يدرجها جاك لوجوف فيما يسميه ب"الزمن شبه الثابت"، تحت تأثير ظواهر طبيعية وبشرية متنوعة، وخصوصا التغيرات المناخية والكوارث والجائحات التي تتقاطع مع قاعدة التحدي و الاستجابة وفق نظرية أرنولد توينبي.
كان هذا تقديما لسؤال الجوهري الذي أثاره إبراهيم القادري بوتشيش دكتور الباحث الأكاديمي تخصص تاريخ وجغرافيا بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، مقال أكاديمي أنجزه، سؤالا جوهريا حول دور الأوبئة كظاهرة محركة للتحولات والتقلبات التاريخية، واختبار هذه المقاربة على وباء كورونا المستجد الذي يمكن إن استمر بهذا الإيقاع السريع أن ينهي حقبة العالم -العولمة ليدشن بعده حقبة جديدة.
ولإعطاء المصداقية لهذه الفرضية، خصص الأستاذ بوتشيش في المحور الأول من مقاله جانبا من الدرس التاريخي الذي يثبت أن الأوبئة شكلت بامتياز نقطة تحول في تاريخ البشرية، فكانت وراء قيام وسقوط إمبراطوريات وحضارات، وانتقال من حقبة تاريخية إلى حقبة أخرى، بينما خصص المحورين المتبقيين لإبراز كيف أن وباء كورونا بدأ ينحت ا لإفرازات الأولى لمؤشرات انهيار نظام العولمة، وانتقال إلى حقبة تاريخية جديدة ستعرفها البشرية، رغم أن ما سنقدمه في هذا المقال الصحفي هو مجرد احتمالات ومؤشرات أولية على التغيرات القادمة، لأننا نعالج موضوعا لحظيا لا يزال في طور المراقبة والتشخيص الأولي، وسنحاول تقديم خلاصة لما جاء في المقالة الأكاديمية للمؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش.
دور الأوبئة في التحولات التاريخية وسقوط الحضارات
تشكل الأوبئة لحظة فارقة في تاريخ المجتمعات، وعنصر تحول وانتقال من حقبة إلى أخرى وقد تكون هذه النظرية مستوحاة من المنظور الماركسي الهيجلي الذي يفسر التاريخ بقوانين -الدياليكتيك، ومنها قانون نفي النفي في إطار وحدة صراع المتناقضات، ونفي الجديد للقديم، ونظرة راصدة لتاريخ البشرية، مما يفصح أن الأوبئة شكلت علامات كبرى لنهاية عصر قديم وبداية عصر جديد، وحسبنا أن وباء الطاعون الأنطوني Antonine Plague ، أو وباء الجدري حسب ما يرجحه بعض الباحثين، اجتاح الإمبراطورية الرومانية في عهد ماركوس أوريليوس من الأسرة الأنطونية ما بين عامي 165 و 190 م، قبل أن ينتقل بسرعة جارفة إلى مختلف أرجاء أوروبا، ليشكل نقطة تحول تاريخي.
ما يهمنا من هذه المقارنة التي تطرق إليها المؤرخ المغربي بوتشيش أن هذا الوباء أسفر ولو عن مدى بعيد عن ثلاث نتائج مفصلية ستجعل الإمبراطورية الرومانية تنتقل من حقبة إلى حقبة جديدة، أولها انهيار قدرتها العسكرية بسب نقل جيشها الغازي عدوى الوباء إلى قلب المجتمع الروماني وإلى – قوته الذاتية، ممّا أضعف كيان الإمبراطورية، وأدى إلى سقوطها المفجع على يد القبائل الجرمانية.
وتجلت الثانية في السؤال الوجودي الذي طرحه المجتمع الروماني آنذاك حول تعدّد الآلهة -ومدى دورها في التصدي لهذا الوباء. ومن ثمّ بدأ المعتقد الوثني في التلاشي ، ممهدا الطريق لحقبة لانتشار الديانة المسيحية بعد ذلك في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين 315 – 333 م ، في حين، تتجسّد النتيجة الثالثة التي جاءت انعكاسا لانهيار الحضارة الرومانية بتلاش ي نظام – العبودية الذي كانت قد رسخته الأنظمة القديمة اليونانية والرومانية.
لقد وضعت الأوبئة التاريخ الإنساني أمام تحولات جد عميقة، تجسدت في تمدّد المسيحية وانتشارها، وسقوط الإمبراطورية الرومانية وانهيار نظام العبودية، بفعل ما سببه وباء الطاعون من سقوط حضاري، وسؤال وجودي حطم المعتقدات الدينية السابقة وأنماط الإنتاج القديمة.
وعلى غرار الطاعون الأنطوني ، ساهم طاعون جستنيان في تحولات تاريخية هزّت أركان الإمبراطورية البيزنطية وريثة نظيرتها الرومانية، وبروز حقبة جديدة أيضا، وقد سمي هذا الطاعون نسبة إلى الإمبراطور البيزنطي جستنيان عندما اجتاح إمبراطوريته ما بين عامي 541 و 543 م، واكتسح مصر والقسطنطينية وبلاد الأناضول والشام وفارس وغيرها من البلدان، وتمخض عن هذا الوباء قطع الطرق التجارية التي كان يعتقد أنها مصدر انتشاره، فضلا عن نزيف ديموغرافي كبير جعل الدولة البيزنطية تدخل حقبة الضعف والانكماش الاقتصادي، ونهاية الإمبراطورية البيزنطية، وبداية ميلاد حقبة الحضارة الإسلامية الفتية التي ورثت مجد البيزنطيين كما يذهب إلى ذلك المؤرخ هنري بيرين.
القول ذاته يصدق على الطاعون الأسود المرعب الذي ضرب أوروبا وعددا من أنحاء العالم في القرن 14 م، وأثبت عدم قدرة السلطات المكونة من النبلاء وأمراء الإقطاع على التصدي له، فكان هذا العجز إعلانا عن إفلاسها وعن إفلاس نظام الإقطاع، في وقت بدأ وعي الطبقة الهشة يتولد تحت الحاجة إلى الصحة والتشبث بالحق في الحياة، مما شكل بداية لنهاية الحقبة الفيودالية أو ما يعرف بالإقطاعي، في أوروبا وبداية عصر النهضة، وقد عبّر ابن خلدون عن هذا التحول الكبير الذي عرفه تاريخ البشرية من جراء هول وباء الطاعون الذي سمّاه بالجارف في عبارات مركزة ذات مغزى عميق، ينطق بتغيّر المشهد التاريخي، واندثار حقبة وبداية حقبة أخرى بالقول ".. وكأنما ناد لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض..، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث، فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد التي تبدلت لأهلها..".
أوجه التشابه بين كورونا والطاعون الأسود
لقد مهد الطاعون لميلاد حقبة النهضة الأوروبية والاكتشافات الجغرافية، وما نجم عنهما من دعوة إلى التحرر من رجال الدين، وبداية عصور الأنوار وشيوع العقلانية الأوروبية، ومن ثم الدخول لعصر تسيّدت فيه المنظومة الرأسمالية والحرية الليبيرالية بعد ذلك.
اقتصرنا على جسّ نبض هذه النماذج التاريخية للأوبئة التي اجتاحت مناطق كبرى من العالم، لإعطاء الحجج والقرائن على الصلة بين انتشار الأوبئة بالحضارات، وحدوث التحولات التاريخية الكبرى، وترهّل حقبة، وظهور حقبة تاريخية جديدة، و لعب الفشل في السيطرة على الوباء دورا في نسج خيوطها، فهل ينطبق هذا التفسير على وباء كورونا المستجد الذي اجتاح العالم منذ أكثر من 7 أشهر؟
وهل سيشكل حلقة أخرى أيضا في سلسلة التحولات التاريخية التي تعصف بالعالم، وتكون سببا في وخز نظام العولمة الذي وصف بأنه النظام العالمي الجديد الأوحد، والذي يملك السلطة والشركات العملاقة، ويسيطر على وسائل التحكم من أسلحة ومال وإعلام؟
حسب مقالة الدكتور والأستاذ الباحث بوتشيش فإن مفكري العصر يتفقون على أن وباء كورونا يشكل إحدى المشاهد الأساسية لحقبة العولمة المتسيّدة في الفضاء الزمني الراهن،. والفرضية التي يطرحها هذا المقال تكمن في أن هذا الوباء سيغيّر أيضا من إيقاعها ، ويجعل مسار الإنسانية يتخذ منحى جديدا.
اعتمد الباحث ضمن مقالته مدخلا منهجيا يعالج من خلاله موضوع وباء كورونا في زمن العولمة كمقاربة لتفسير بداية أو انتهاء حقبة تاريخية نعايشها، مدخل لا يخلو من المغامرة في التفكير، فهو موضوع يتسم بكثير من اللبس والضبابية والاستعصاء في الفهم الدقيق لتجليات أزمة العولمة كموضوع لحظي، لا يزال في طور التشكل تحت سمعنا وبصرنا، بوتيرة سريعة، نتيجة تسارع الأحداث التي قد تجعل الباحث يعدّل آراءه كل يوم بسبب المتغيرات التي تحملها الأخبار على مدار الساعة.
وفي هذا السياق استشهد الباحث المغربي بما أسماه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط المعروف بدفاعه عن قيمة الإنسان، عند معالجته مسألة التنوير ب"الجرأة على الفهم"، لإدراك الأحداث وتفاعلاتها. وهو نفس التوجه الذي دافع عنه الفيزيائي ديفيد دويتش في كتابه "بداية اللانهاية" بالقول) إننا إذا تجرأنا على الفهم، يصبح التقدم ممكنا في كل المجالات العلمية والسياسية والأخلاقية (.
بيد أن التراكمات التي أفرزتها العولمة المتوحشة في العقود الأخيرة، إلى جانب بعض المؤشرات الحالية، جعلته يسير بفرضيته قدما، وإن كان من الصعب التكهن بموعد التحول أو حجمه، لأن التحولات التاريخية لا تتم بعصا سحرية، بل تستغرق عقودا، أو حتى قرونا كما حصل بالنسبة للوباء الذي أصاب الإمبراطورية الرومانية أو البيزنطية والطاعون الأسود، فكلها أوبئة لم تظهر انعكاساتها في انهيار حضارات وصعود حضارات أخرى إلا بعد حيّز زمني طويل.
وباء كورونا يسقط هيبة العولمة ونظرياتها
حاول الباحث أيضا معالجة بعض مواطن ضعف نظريات العولمة والنظام النيوليبرالي الذي أشبع بحثا من قبل المتخصصين الاقتصاديين من طينة سمير أمين وجون إيف هوارت Huwart ، والمفكرين والفلاسفة الغربيين من قبيل أدغار موران، وروجي غارودي، ونعوم تشومسكي والمفكرين العرب من قبيل المرحومين محمد عابد الجابري والمهدي المنجرة وغيرهم ممن يندّ عن الحصر، حيت أجمع هؤلاء على خروج هذا النظام عن سكة الإنسانية، وعن دائرة الأخلاق، وفرضه تنميطا ثقافيا سعى من خلاله إلى طمس القيم الإنسانية التي شيّدتها الحضارات السابقة، وأعلن نفسه حضارة متفوقة عسكريا واقتصاديا سياسيا، وسعى إلى إنتاج دول فاشلة للهيمنة عليها، في الوقت الذي غزا بسلطته المالية وشركاته العابرة للقارات كل المجتمعات الفقيرة، ليجعل منها سوقا استهلاكية ربحية كما بيّن ذلك مؤخرا المفكر روبين نيبلت في مجلة Foreign policy التي استطلعت آراء مجموعة من أبرز المفكرين حول مستقبل العالم بعد وباء كورونا.
ودافع الباحث من خلال نظريات هؤلاء المفكرين أن الحضارات البشرية لا تتصارع، وإنما تتكامل، وأن القوى السياسية والمصالح هي التي تتصارع. في حين أن الشعوب والمجتمعات المدنية تتكاثف جهودها وتبني تحالفات وأشكال من التثاقف في مجال الطب وأساليب التصدي للأوبئة والكوارث ، جاعلا نظرية هنتنغتون على المحك وفي موضع تشكيك، والتي تتنكر لحقائق التاريخ الإسلامي وحضارات المجتمعات غير الغربية، مناصرة بشكل أعمى لوجهات النظر المبرزة ل " نضج الحضارة الغربية"، و الزاعمة لتهديد المهاجرين المسلمين للحضارة الغربية، وطعن الباحث المغربي في كل نظرية هنتنغتون طالما أن الغرب المتحضر هو أكثر مجال جغرافي يفتك بشعوبه فيروس كورونا، بل إن زعيمته الولايات المتحدة تقف عاجزة مذهولة لا تعرف أي قدم تقدّم أو تؤخر.
تأسيسا على ذلك، اكتفى الباحث بوتشيش في معالجته لهذه النظريات بإبراز الوجه الآخر من هشاشة العولمة في علاقتها مع الأوبئة، من خلال وضع الأصبع على المجال الصحي في الدول الكبرى المنضوية في فضاء العولمة، بهدف إبراز رخاوة النظريات التي روجت لها، وصوّرتها كنظام قوي في جميع القطاعات، بما في ذلك القطاع الصحي، وعدم صواب زعمها أنه نظام صلب قادر على قيادة البشرية، أو قد يشكل نهاية للتاريخ،
وجعل فعدّاد الموتى في تصاعد صاروخي، والموت حصد الآلاف.
استشهد الأستاذ بوتشيش بنظريات المفكر الكندي وعالم الاجتماع النفساني ستيفن بينكر Steven Pinker التي تضمنها كتابه الأخير"التنوير الآن: دفاعا عن العقل والعلم والنزعة الإنسانية والتقدم" بعد جائحة كورونا التي هزّت العالم ، بعد أن تخلى عن بعض آرائه التي كتبها حول المجال الصحي في العالم، وقال أن نظرية " التحسن الصحي" الذي تحدث عنه سابقا ، لا يعضده الواقع الذي فرضه وباء كورونا حيث عجزت المستشفيات عن استيعاب عدد المصابين حتى في البلدان الأكثر تصنيعا في العالم.
وحسب مؤشرات الأمن الصحي العالمي لسنة 2019 ، فإن ما يقدر بنحو 400 مليون شخص لا يستطيعون الحصول على أبسط الخدمات الصحية، وأن 75 ٪ من البلدان على الأقل صنفت في درجات منخفضة على المخاطر البيولوجية الكارثية على المستوى العالمي. وأحسب أن وباء كورونا جاء ليعريّ النظريات التي روجت لنظام العولمة، ويقلب تصوراته حول مرتكزين كان يدعي القدرة إلى حد الغرور في امتلاكهما وهما مقولة التعالي عن فكرة ضعف الإنسان و مقولة العلم المطلق المسيطر على الطبيعة، بل الأكثر من ذلك أن الإنسان من تعاليه المطلق استرسل في تجارب استنساخ البشر مدعيا تربّعه على عرش العلم والمعرفة، غير أن فيروس كورونا التاجي الذي ينتمي للجيل السادس من الفيروسات غير المرئية، قلب العرش على صاحبه حين زرع فيه الرعب والهلع، ووضع حدّا لأنشطته الاقتصادية ومبادلاته التجارية وتعاملاته المالية، وعطل الشركات، وأربك البورصات والأسواق العالمية، وشلّ حركة المطارات، وأوقف أسفار أصحاب رؤوس الأموال، وفرض على الكائن البشري الخيار بين الحجر المنزلي أو الموت، وتأكد للجميع أن هذا الفيروس لا يميّز بين غني وفقير، و لا ينفع معه مال ولا بنون ولا سلطة ولا جاه.
وباء كورونا حدث غيّر كل الموازين والمعادلات، وقلب رأسا على عقب صورة الإنسان العولمي الذي نحث نظريات العولمة وكتائبها الفكرية، فأعاده إلى طبيعته الأصلية وضعفه الفطري ، وأبان عن عجزه التام أمام مخلوق صغ ر لا يرى بالعين المجردة. لم يعد مقياس خ ر وباء كورونا يقوّم بما يخلفه من أعداد مهولة من المصابين والموتى، بل بدرجة الوهن والضعف والشلل التام أمام هذا القاتل الذي لم تنفع معه منجزات المختبرات العلمية، ولا طائرات العولمة وبوارجها البحرية ولا عتادها وأسلحتها. غير فيروس كورونا الخريطة الجيو-اقتصادية المألوفة حين ألغى تقسيم الدول إلى مصنعة ومتخلفة وجعل كل الدول على قدم المساواة.
كورونا تكشف هشاشة المنظومة الصحية للدول المصنعة
لقد كشف فيروس كورونا كم هي هشة تلك النظريات التي روجت للعولمة المتجبرة، وكم أن جسد المجتمع العولمي قابل للنهش بسهولة ويسر، بل أنه اسقط جبروت منطق العولمة المرتكز على" الربح قبل صحة الإنسان"، وكشف أن الإنسان العولمي المغرور بنياشين علمه، المزهو بقدرته على قهر الطبيعة، استخدم العلم ونتائجه دون رادع أخلاقي، على حساب صحة البشر، فجعل من تطبيقات العلم وسيلة لصنع أسلحة الدمار الشامل، والغازات السامة وكافة الأسلحة البيولوجية لتدمير البشرية، بدل تسخير العلم في خدمة مكافحة الأوبئة.
قال الأستاذ الباحث في مقالته الأكاديمية التي عصفت بالعولمة كنظام يخدم البشرية ومنزه عن كل الأخطاء، إن جائحة القرن هزت أركان المنطق العولمي السائد كون "الربح هو مركز تفكير الأسواق الرأسمالية قبل التفكير في مواجهة الكوارث"، أو كما قال نعوم تشومسكي في إحدى حواراته مؤخرا" كانت إشارات السوق واضحة: لا يوجد أي ربح في منع كارثة في المستقبل."
وأضاف أن الولايات المتحدة أنفقت أموالا باهظة في إعداد الصواريخ ذات الرؤوس النووية والأسلحة الجرثومية، والغازات السامة الضارة بالبيئة، والمسبّبة ل لأمراض والأوبئة التي تعصف بالبشر، في حين لم تخصص هذه المبالغ المالية الخيالية لبناء المستشفيات والمرافق الصحية تحسبا للكوارث المحتملة.
موقف اتفق معه آخرون جزموا أن صنع القرار الأمريكي لا يتم إلا بعد موافقة رجال الأعمال، وهو قرار يكرس للربح الخاص، بحيث لا يكون له أي تأثير إيجابي على الصالح العام، كما يؤكد ذلك تشموسكي الخبير بالمجتمع الأمريكي، لقد أثقلت الشركات التجارية المتسيّدة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة بالضرائب، مما جعل الاستجابة الشعبية لها ضعيفا، ويعزى هذا التلكؤ في الانخراط في الرعاية الصحية إلى قوة النظام التشريعي الذي صاغته قوة الأعمال وخدامها الأذكياء كما يقول تشومسكي في حواره المنشور في موقع( truthout.org ) ، لذلك ظل القطاع الصحي الأمريكي يعاني من الضعف رغم صورته البراقة.
وتضمنت مقالة بوتشيش العديد من الدراسات التي كشفت أن الولايات المتحدة قلصت من ميزانيتها المخصصة لأبحاث الأوبئة بنسبة 21 % ، وأغلقت مكتب الأوبئة التابع للبيت الأبيض الذي تمّ تأسيسه في عهد الرئيس أوباما، وأوقفت برنامج "بريديكت" سنة2019 ، وهو برنامج مختص بتتبع وبحث أكثر من ألف شكل من الفيروسات حسبما أورده أحد الباحثين، وتمّ أيضا إلغاء مشروع شراء الأجهزة التنفسية من شركة كانت قد تعاقدت معها وزارة الصحة الأمريكية، مما يشكل خطرا صحيا كبيرا نبهت إليه صحيفة نيويورك تايمز مبكرا بالقول: " إن الجهود المخصصة لإنشاء خزين جديد من أجهزة التنفس الرخيصة وسهلة الاستخدام تسلط الضوء على مخاطر الاستعانة بالشركات الخاصة في مشاريع ذات آثار حاسمة على الصحة العامة ، وتركيزهم على تعظيم الأرباح لا يتسق دائما مع هدف الحكومة المتمثل في الاستعداد لأزمة مستقبلية".
وقال الباحث المغربي إنه على غرار الولايات المتحدة، أعلنت الأنظمة الرأسمالية الغربية في أوروبا كذلك عجز نظامها الصحي عن مواجهة وباء فيروس كورونا المستجد، ومنها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي قلصت من الرعاية الصحية للمصابين من الفيروس، وكذلك ألمانيا رغم نظامها الصحي المتطور، وبريطانيا التي لم يرحم كورونا رئيس حكوماتها الذي دعا الشعب البريطاني إلى توديع أقاربهم، ولم يكن هذا المآل سوى نتيجة من نتائج التنافس بين الدول السابحة في فلك النظام العولمي الذي وصل إلى حدّ استخدام المادة الوراثية لكائنات حية كالحيوانات والبكتريا والفيروسات، خدمة لأجندة عسكرية تمخضت عن تصنيع كائنات معدلة وراثيا، ومنفلتة عن السيطرة.
لقد حلّ فيروس كوفيد 19 ليزيل ورقة التوت عن عورة النظام النيوليبرالي الصحي ويكشف سوء تطبيق منجزه العلمي، وبعده مسافة ضوئية عن أخلقة العلم وتنميته لما يخدم البشرية، ويعري الجانب المضمر والمتوحش في نظام العولمة الذي جعل من فيروس كورونا "الوحش الذي تغذيه الرأسمالية" حسب تعبير عنوان المقال الذي نشره المؤرخ الأمريكي مايك ديفيس من جامعة كاليفورنيا، إنه مشهد آخر من مشاهد التردي الأخلاقي والتوحش الربحي المادي على حساب أرواح البشر، ومؤشر من المؤشرات التي توحي بنهاية العولمة المتوحشة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.