* باريس أحمد الميداوي يجد المسلمون بفرنسا في رمضان مناسبة فريدة للتزود بجرعة إيمانية قوية تساعدهم على تأصيل هويتهم الإسلامية التي هي آخر ما تبقى لديهم بعد أن ضاع جزء من الهوية اللغوية والثقافية وحتى الاجتماعية. وعلى الرغم من صعوبة الصيام في بلد الاغتراب حيث تغيب عن الأسماع تكبيرات المآذن وأصوات مدفع الإفطار لكون البلد المضيف له قوانينه ومحظوراته، فإن أجواء التقوى والإيمان الرمضانية حاضرة بكل أبعادها الروحية لتقوي لدى أبناء الجالية الإسلامية الشعور بالانتماء، ولتخلصهم من صقيع الحياة الفرنسية المثقلة بهموم الغربة. وأنت تتجول في منطقة (جوسيو) الباريسية، وهي من أهم المناطق العلمية والثقافية، حيث تحتضن جامعة السوربون ومعهد العالم العربي والمكتبات العربية ومسجد باريس الكبير، يسرقك الخيال عند التأمل فيها إلى مدن إسلامية، مثل فاس والقاهرة ودمشق. وتحتضن باريس وحدها أزيد من عشرة مراكز إسلامية كبرى، وأكثر من 400 مسجد ومكان عبادة من بينهم مسجد إيفري (المغربي) الذي يعد أكبر مكان للعبادة بأوربا وأهم مرجع ديني للجاليات الإسلامية. ويتحلى بجمال عمارته ومرافقه التي تحتوي على مركز ثقافي ومكتبة إسلامية، وقاعات للدروس الدينية والمحاضرات، إضافة لمدرسة من 28 قسما لتعليم الأطفال اللغة العربية، وأخرى لتدريس التربية الإسلامية، وملحقات إدارية وثقافية أخرى، ومقهى صغير تقدم فيه الحلويات المغربية والشاي بالنعناع. وفي ساحة المسجد الذي كان للمملكة العربية السعودية دور هام في تمويل بنائه، قبل أن يصبح منذ عشر سنوات في ملكية المغرب، تجتمع كل الألوان والأجناس، المسلم العربي إلى جانب الإفريقي والتركي والهندي والصيني والفرنسي، لتأدية الصلاة جماعة مع آذان المغرب، يوحدهم الإسلام ويجمعهم شهر رمضان في الصلاة والعبادة. وفور الآذان يوزع العاملون في المسجد كؤوس الحليب مع حبات التمر على المصلين، كما هي عادة المساجد المغربية. وتتنوع أنشطة المسجد بين ندوات إسلامية ودروس دينية يلقيها نخبة من المفكرين والعلماء العرب والمسلمين القادمين من مختلف الأقطار. وإلى جانب "مسجد باريس" ومسجد "إيفري" هناك مساجد كبيرة أخرى، أهمها مسجد "الدعوة" ومسجد "أرجنتوي" ومسجد "مونت لاجولي" وهي موزعة بضواحي باريس. ويقارب عدد المساجد بفرنسا الألفين ما بين مساجد وقاعات للصلاة وأمكنة أخرى للعبادة معظمها يتواجد في أقبية العمارات ولا تتوفر فيها الشروط الضرورية والصحية لدور العبادة. ويترقب المسلمون وعود الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون ببناء المزيد من المساجد لتوفير شروط العبادة اللازمة وإخراج المساجد مما أسماها ب"المستودعات" غير اللائقة بثاني ديانة بفرنسا. ولا غرابة أن تكون فرنسا دولة استثنائية في القارة الأوروبية تجاه الإسلام والمسلمين نظرا للإرث التاريخي مع الدول العربية والأفريقية التي تحرص فرنسا بقوة على الحفاظ عليه وحمايته من الأطماع الصينية والأمريكية بالمنطقة. ويدرك الفرنسيون مكانة رمضان في نفوس المسلمين، فتجدهم يقدمون التهاني بحلول الشهر للجيران ولزملائهم المسلمين، كما يبدي الكثير منهم إعجابه بقدرة المسلمين على التحمل لمدة 15 ساعة متتالية من دون أكل أو شرب. ويتخذ شهر رمضان مظهره التقليدي من خلال السلع العربية والشرقية التي تملأ واجهة المحلات العربية بالخبز الرمضاني والحلويات المغاربية والشرقية وأنواع أخرى من السلع كل حسب بلده. فتجد بواجهات المتاجر وحتى على الرصيف، ألوانا مختلفة من السلع والمنتجات، بدءا من التمور السعودية والمغاربية إلى الحلويات بأشكالها المختلفة، مرورا بأنواع عديدة من الفطائر والعجائن والأجبان وغير ذلك من الوجبات التي ستجد المعدة بعد الآذان متاعب كبيرة لاستيعابها وهضمها. وشهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي تتجلى فيه بقوة مظاهر ارتباط المسلمين في ديار الغربة بالعادات والتقاليد الإسلامية، ورفضهم محاولات التذويب في إطار ما أصبح يسمى بالاندماج الناجح الذي تحاول بعض الأوساط السياسية فرضه على الجالية الإسلامية دون أن تضع في الاعتبار اختلاف الثقافات وتباعد أنماط الحياة وغياب التجانس في البيئة والتنشئة والمحيط. وتقوم الصحف والمحطات الإذاعية الاغترابية بدور كبير في ما يخص نشر وتعميم ثقافة الانتماء في أوساط أبناء الجالية الإسلامية وتقوية الوعي لديهم بسعي بعض الفئات الحاقدة في المجتمعات الغربية إلى ابتلاعهم وتقويض عقيدتهم. وتستعرض باحترافية إعلامية عالية، إسهامات الجالية الإسلامية في مجالات مختلفة كالسياسة والاقتصاد والرياضة والفن، والتي تعتبر إشارات قوية في اتجاه المسكونين بهاجس الخوف من الهجرة تحت ذرائع مختلفة معظمها مرتبط بما يسمونه بالتطرف الديني. وتبث المحطات الإذاعية الموجهة للشباب المغاربي برامج مسترسلة خاصة بشهر رمضان حيث تحل تلاوة القرآن ونصائح الطبخ وندوات حول الفكر الإسلامي محل البرامج الموسيقية المعتادة. وتتنافس هذه المحطات ومعظم مالكيها من تونس والجزائر ولبنان لبث سيل من الأخبار عن أحوال المغتربين في رمضان.. ويتميز نشاط المحطات الاغترابية بتكثيف تغطيتها إلى ما وراء الحدود لتخرج بتقارير مصورة ولقاءات من مختلف عواصم العالم الإسلامي بالإضافة إلى تقارير مفصلة عن رمضان في باريس تشرح فيه للمتلقي المسلم والفرنسي معا، طقوس كل بلد في استقبال هذا الشهر المبارك والأهمية الدينية والروحية التي يختزلها في قلوب الصائمين.