أجهزت السياسات الحكومية اللاشعبية في الثمانينيات ومنتصف التسعينيات على الوضع الاقتصادي والسياسي للطبقة الوسطى؛منذ أن وافق المغرب على الانخراط في سياسة التقويم الهيكلي وفي منظومة الانفتاح والتبادل التجاري الحر؛مما اضطرت معه الحكومات أعلاه إلى التراجع عن دعم القطاعات الحيوية؛كما أن انخراط المغرب في العولمة الاقتصادية من خلال نهجه لسياسة الخوصصة وتسريع عملية الالتحاق بالثورة التكنولوجية دون إعداد العدة والبنيات التحتية اللازمة لاستيعاب التحولات العالمية الكبرى؛إن هذه الرجة الاقتصادية كانت لها انعكاسات سلبية هامة على الاقتصاد الوطني الهش والمهدد بالسكتة القلبية؛تجسدت في ارتفاع مستويات كل من التضخم والأسعار وعملت على انخفاض القوة الشرائية بتزايد معدلات الهجرة نحو المدن واتساع الفوارق الطبقية ؛وبالتالي كان من الطبيعي أن تروح الطبقة الوسطى ضحية كل ذلك . لقد انتبهت البلدان المتقدمة بشكل مبكر إلى خطورة انهيار الطبقة الوسطى وعملت على النهوض بها من منطلق أنها الطبقة الواعية والرائدة في مختلف عمليات التغيير والإصلاح؛إذ هي التي تضمن استقرار الأنظمة وتمتص الغضب الاجتماعي بصفتها صمام أمان الأنظمة السياسية القائمة؛ وهذا ما جعل العديد من المرشحين السياسيين في حملات انتخاب رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا يرفعون شعار النهوض بالطبقة الوسطى والعمل على تحسين وضعها الاقتصادي والسياسي؛وذلك كما لاحظناه مؤخرا في حملات الرئيس الأمريكي الحالي "باراك الحسين أوباما"؛والتي أتت حملته أكلها من منطلق وعده بإنقاذ وضع الطبقة المتوسطة. ومن هذا المنطلق نثمن الخطاب الملكي لعيد العرش الأخير الذي ركز على إعادة الاعتبار للطبقة الوسطى ؛بعد تسجيل تركيز التقرير الخمسيني على عنصر "الإمكان البشري"حيث يلح على ضرورة أن يتوخى الهدف الاستراتيجي لكافة السياسات العمومية " توسيع الطبقة المتوسطة لتشكل القاعدة العريضة وعماد الاستقرار والقوة المحركة للانتاج والإبداع"؛ وهو فعلا ما جسده بنجاح الوزير الأول الأستاذ عباس الفاسي من خلال مجهود حكومي عمل لأول مرة على ضخ 29 مليار درهم دعما للمواد الأساسية و16 مليار لتحسين الأجور بالإضافة إلى 450 مليون درهم للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؛تروم في الأخير النهوض بالوضع المادي للمغاربة جميعا بما فيه التنفيس على الوضع المأزوم للطبقة الوسطى. وعلى المستوى السياسي بعدما كانت الطبقة الوسطى الحضرية تشارك من قبل بقوة في الفعل السياسي وخاصة من خلال قواها المجتمعية الحية المتجسدة في رجال التعليم والمحامين والأطباء والمهندسين وكبار ومتوسطي الموظفين والتجار المتوسطين ؛نجدها اليوم غائبة عن الأحزاب السياسية والمؤسسات النقابية وجمعيات المجتمع المدني كما كان عليه الأمر بالأمس؛إذ لا تشارك مثلا في الاستحقاقات الانتخابية سوى بنسبة الربع تقريبا ؛حيث أن العزوف السياسي عن الأحزاب هو بنسبة حوالي 90% تقريبا ونفس النسبة تسجل في الحقل النقابي والجمعوي؛كما أن العزوف الانتخابي لا زال في تصاعد بنسبة حوالي 75% بالمدن وبنسبة %65 بالبوادي تقريبا. إن مصالحة الطبقة الوسطى بالشأن السياسي يتطلب في بداية الأمر الاستجابة الأولية لمطالبها الأساسية؛التي تتجلى في توفير مقومات الديموقراطية الحقة على مستوى الإحترام الفعلي لمختلف الحقوق والحريات العامة وترسيخها على أرض الواقع ؛و الدفع بممثلي الشعب على مستوى البرلمان إلى القيام بالمهام المنوطة بهم مع توسيع صلاحياتهم واحترام حرمة القضاء واستقلاليته؛ لأن منذ أن برزت الطبقة الوسطى في أوربا في القرن التاسع عشر وهي لا تثق إلا في النظام النيابي ؛مع ضرورة عقلنة الحقل السياسي من خلال انتخابات نزيهة وشفافة والدفع في توسيع نظام اللامركزية على المستوى المحلي بتخفيف الوصاية وإقرار لامركزية جهوية متقدمة. إن مصالحة الطبقة الوسطى مع الشأن السياسي رغم توفير ما سلف لا تتأتى بإصدار قرار فوقي أو مرسوم حكومي؛كما أنها ليست عملية حسابية أو تقنية تترتب بمجرد تحسين الأوضاع المادية؛ بل هي مسألة معقدة كثيرا؛إذ بالإضافة إلى العناصر المادية والتقنية أعلاه ثمة عناصر معنوية وروحية هامة ينبغي التركيز عليها كإعادة ثقة فئات الطبقة الوسطى في الفعل السياسي والإسهام في إحقاق تنشئة سياسية مبكرة للشباب مع منح هؤلاء تمييزا إيجابيا لخوض غمار الانتخابات؛ وإفادة النساء بكوطا مشجعة وعقلنة العمل السياسي بدعم الأحزاب السياسية ماديا ولوجستيكيا وتفادي تفريخ أحزاب سياسية فاقدة للشرعية والمصداقية؛وتحييد الإدارة وشد الخناق على المال الحلال والحرام حتى لا يقتحم غمار المنافسة لخطورة تأثيره على الطبقة الفقيرة وافتقاد الطبقة الوسطى له ؛ومراجعة نظام الانتخابات الذي يحجم نسب أصوات الأحزاب الكبرى الحائزة على المرتبة الأولى وتغيير نمط الاقتراع المفضي إلى ذلك؛وتشجيع التصويت عن بعد بإشراك الجالية المغربية بالخارج في العملية الانتخابية والتي تشكل ثلاثة ملايين شخص وكذا توفير خدمة التصويت الإلكتروني ؛ واشتراط مستوى تعليمي متوسط في المرشحين ودعم نظام الاقتراع الفردي لتجديد نخب الطبقة وتفادي اقتراع يوم الجمعة . أستاذ جامعي كلية الشريعة فاس [email protected]