سريعاً تغادر المكان، تتعجل الخطى كبرق خاطف، تتهاوى مع كل خطوة تخطوها خارج سربك وأصوات القذائف تئن بين يديك. تتلمس الجدران، الأمكنة والعتمة تأخذ في طريقها نحوك، كل ما حولك ظلام دامس، لا ترى شيئاً سوى الضباب. تتلمس جدران المخيم بينما تنشطر قدماك في لجة من خوف، تهذي، تواسي جراحك، تتمتم بآيات من القرآن علك تصل إلى بيتك بسلام. وبين فينة وأخرى تراوغك الكلمات، تحاور نفسك كمجنون يهذي، "ليتنا نموت جميعاً في آن واحد"، "ليتنا نغرق مع أعدائنا في تسونامي جديد" تستعيذ بالله من شيطانك، تطفر دمعات عزيزة من عينيك، تواسي نفسك، "ألا تكتفي بالبكاء؟!" وتصمت، تمر أمامك ناظريك لوحات ولوحات لأطفال قضوا بعيداً عن آبائهم، عنك، تستعيذ من عقدة الحياة، تحث الخطى وصورة طفليك ماثلة بين ضلوعك، يجلسون القرفصاء، يرتعدون خوفاً من أصوات مجهولة، قذائف غير معلومة اللون أو الرائحة، يموتون، يخرج الزبد من أشداقهم، وجهوهم، يتدثرون التراب وأنت عاجز عن فعل شيء، أمامك الموت ولا شيء سواه، زوجتك تصرخ وقد ملأ السواد جسدها المدبب، النار تلتهم بقايا وجه لطالما أحببته، وأنت تكتم أنفاسك، آهاتك، لا تدري إلى أي قبلة تتجه، هل تتركها تموت لتنقذ طفليك؟ أم ماذا؟ كمجنون تهذي! وتهذي وتهذي. تبصق على الأرض، تحضر قطعة قماش كبيرة تدثرها جسد الزوجة، تغطيها به وهي تموت، وأنت تموت. أما طفلاك فلا حول لك ولا قوة، يختنقون، يقولون بصوت مبحوح، "بابا" والصمت صفة الهزيمة... وتنهزم، تخرج بأجساد مقطعة، أشلاء مذبوحة، تحمل زوجتك على كتفيك، وتسحب طفليك (بالبطانية) التي وضعتها أسفل منهم، خلفك الطلقات التي تواصل الحكاية، طلقات كبيرة بحجم الأرض، تلهث كضّالٍ عن حتفك، تخترق الصمت، تبعثر الهدوء الماثل بين يديك، بقايا رصاصات جميلة بلون الدم تخترق دُماك البهلوانية التي تهذي وتشخر كنائم لن يستيقظ، وتبكي... تمر من أمامك صور لا تراها الآن، "هل ما زال أطفالي يغطون في نوم عميق؟"، "هل سأراهم حين أعود؟" ولن تعود، تحث الخطى مرة أخرى وأخرى، تتحاشى الأخاديد في شارعكم، لكنك تقع رغماً عنك، تفترش الأرض ويملأ الغبار روحك، كأن الرصيف يتحداك، تهذي وتهذي، لا ترى الآن سوى سواد مدقع، مربع أسود متفحم يدغدغ قلبك، تغلقه وتفتح أذنيك الكبيرتين، تسمع خلالهما أصوات مرعبة لسيارات الدفاع المدني والإسعاف، وفي محيطها صلوات ودعوات، نحيب طويل لا ينتهي، هزيم لرعود تتوالى ثم.. يباغتك من خلفك صوت أخيك الأصغر، هكذا فجأة وأنت سارح عن كل ما هو حولك، يسألك: - حسن، ماذا تفعل هنا؟ - ..................... - ألا تزال تعود البيت؟! أما اتفقنا أن نترك المكان........ - ..................... - أما اتفقنا بأن ننس بيتنا، حتى تنتهي الحرب بسلام. - .................... - قل لي بربك، ألا تخاف على نفسك؟ أخبرني! - .................... - سامحني، لكنك لست وحدك من فَقدَ عائلته. - .................... - كل بيت في غزة الآن به مأتم، ألا ترى ذلك بأم عينيك؟ - .................... - شكراً لله بأنني رأيتك، فلربما أهلكت نفسك الليلة... ثم متابعاً: - هيا انهض معي لنذهب إلى مدرسة الأنروا، هيا أرجوك. - ..................... تحاول أن تطاوعه بكل ما أوتيت من قوة، أن تترك المكان، لكنك لا تستطيع فعل ذلك، مهزوم خاسر لم يبق له شيء حتى يخسره، أصواتهم تناديك بصخب، كأنهم ما زالوا هناك، موجودون حقاً تحت الركام، تسمع زوجتك وهي تنادي بأعلى صوتها، ترجوك بأن تحضِر الحليب لمحمد، و.... تذهب، نعم تذهب، تجري كمن يتخبط في قيد الجنون، تناديها وصوت أخيك من خلفك يصرخ، يهتف، ينادي.. لا تراه الآن، لا تسمعه، لا ترى شيئاً سواها، سواهم، وقبل أن تصل الشارع المواجه لبيتكم تكون قد اختفيت مع الدخان. وانطفأت..........................