يبدو تأمّل مسألة الألم في الأدب من باب الأغراض الأثيرة الحميمة إلى الإنسان بما أنّها ميسم من مياسم "منزلته البشرية"، فإذا الأدب مسرح ينتقم فيه المبدع من جلاديه وقد أحالوه جسدا معذبا أو روحا سليبا، وما التراجيديا اليونانية إلا تبشير بالبطولة الإنسانية أمام ظلم العقاب، وهل الاحتجاج على "الإلهة المجرمة" إلا ترفيع من شأن الإنسان المعذّب. ولا يعني ذلك أنّ الاستلهام الأدبي لمسألة الألم يشرعه على نفي الآلهة وإقصاء الروح، ذلك أن اشكالية الألم هي "المصدر المشترك للدّين والإلحاد" على حدّ عبارة إتيان بورن Etienne Borne ومن ثمة، فهي منفذ إلى المطلق الإنساني وهذا ما نقف عليه في حدّ الألم بما هو "إدراك ونيل لما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك" ويفسّر التهانوي "الإدراك" بالعلم و"النيل" بتحقق الكمال" . فالأدب تمثيل للوجود الإنساني الذي يخترقه تكرار رتيب للشقاء والإثم والموت فخصوصية الأدبي بما هو عمل فني تتمثل في ترجمة ذلك إلى مسار منتظم من السرد والتمثيل الذي يصنع من عواصف الانفعالات رقى وفخاخا توقع في فتنة الجمال غير الواقعي. وهذا التعريف للأدب يغرينا بتبيّن المسالك الإبداعية التي تستدعي قلق الحياة وتزيفه في آن- المشتركة بين صيغتها الأسطورية وظاهرها الفنية. وما الآداب ولا سيما الدرامية والروائية منها إلا سليلة الأساطير فهي تخترع شخصيات تصطرع فيما بينها وذلك في وضعيات متخيلة . • الألم في الأدب فالألم في الأدب مشغل طريف وإن لم يكن طارفا إذا يمكن إرجاع وجوده إلى التراجيديات الاغريقية التي عجّت بمشاهد الألم وصور العذاب المواراة. ولما كان غرضنا هو الوقوف على هذا المبحث نظريا فحسب فنكتفي بإيراد مثال واحد لتجسم الألم (أو الشرّ) في الحكايات الميثولوجية وهو صورة الثعبان رمز للشرّ والألم. فإيزيس Isis زوجة الإله المصري القديم أوريزيس Orisis تصور على أنها متوجة باوراس Uraeus وهو ثعبان مقدس هو عندهم رمز الحكمة والحياة فهو يرصع جبينها. كما أن الثعبان هو رمز الآلهة الاغريقية الإناث كسيبال Cybèle وديميتر Déméter. واستثمر رمز الثعبان في الأدب فبايرن Byron وموريك Morike من الذين أحيوا أسطورة الثعبان أقدم عاشق في التاريخ على أنّه تجدر الملاحظة أنّ الصبغة المقدسة لصورة الثعبان بدأت تتخلى شيئا فشيئا عن مكانها ليصار إلى النظر إليه باعتباره حيوانا مرعبا. فضراوته الساكنة وزحفه غير المحسوس ومجابهته الباردة ونظرته الفاتنة وسمه، كل تلك الخواص تجعل منه رمز الشرّ أو استعارة الألم . فالألم في الأدب موضوع يستمدّ رموزه وصوره من خيالات الكتاب وذاكرتهم الفردية والجماعية وهو موضوع يسري في العمل الإبداعي النفس الإنساني المميز والروح الأسطوري البائد، فينخرط في تشابك مع مباحث أخرى تصل الإنسان بمنزلته في الوجود وبأسئلة القضاء والقدر وقضية العدل وسائر المشكلات الوجودية التي يعرضها الأدب في حلله المجازية حين تعقلنها الفلسفة دون إن تدعي هذه أو يزعم ذاك أنه وقع على السر المكنون، بل هي أمور خلافية قد يجأر فيها الأديب والفيلسوف إلى الدين فيسبغ على تلك القضايا الشائكة حلوله الجاهزة. وأنّى للفلسفة أن تصاهر الدين وكل له رؤيته للكون وللنزاعات الفكرية القائمة منذ القديم فكيف نقيس "حلاوة الإيمان" على "حلاوة السكر" عند بعض الفلاسفة والحال أنّ "الألم واللذة –عندهم- هما من الأحوال النفسية الأولية، فلا يعرفان" وفي حين يقر بعضهم بأنّ الألم مقابل للذّة ويجعل كل واحد منهما نوعين: جسماني ونفساني، نجد "أن بعض الفلاسفة لا يفرقون بين الجسماني والنفساني من الآلام" معتقدين إن "طبيعتها الأساسية في نظرهم واحدة" بل هم يعدون الاختلاف في طبيعتهما "وهما" وينتهون إلى أن "لا فرق إذن في الماهية بين ألم اليأس وألم البثور والدمامل" . • موضوع الألم فموضوع الألم محفوف بالغموض واللبس مما يجعل تعريفه الماهوي غير جامع ولا مانع فاعتباره مثلا "شعورا مزعجا يشمل الانفعالات النفسية كالكآبة والحزن الشديد والغم" . وكذلك الشأن بالنسبة إلى الألم الجسماني الذي يتميز فيه الإحساس بالألم عن سائر الأحاسيس الأخرى كالإحساس باللمس والحرارة والبرودة وغير ذلك وآية تفرّده "إن هناك مواد تخدّر الأعصاب فتزيل الإحساس بالألم وتبقى إحساس اللمس" وهذا التفرد لإحساس الألم قد يكون سببا في حدّ بعضهم معناه بأنّه "الإحساس بالخلل الجسماني" في حين اعتبر ابن سينا أن سبب الألم "سوء المزاج المختلف" وشتان بين المعنى والسبب. وقد فصل الإمام الرازي أمر هذا الاختلاف بين نفس الشيء وسببه بالنسبة إلى اللذة فقال: "كون اللذة عين إدراك المخصوص لم يثبت بالبرهان" ويورد جملة من الأسئلة المحيرة "اللذة هل هي نفس ذاك الإدراك أو غيره وإنما ذلك الإدراك سبب لها و(...) هل يمكن حصول اللذة بسبب آخر لذلك الإدراك أم لا، و(...) هل يمكن حصول ذلك الإدراك بدون اللذة أم لا" فهذه الأسئلة الحارقة في صميم كنه اللذة وسببها أو أسبابها يقف العقل أمامها حائرا عاجزا يعوزه التحقيق ويقصر عن التدقيق فكان الحل متمثلا في الإنسحاب من هذا المبحث وطرد ذلك على الألم "وكذا الحال في الألم" فهذه الأمور التي وقف عندها الإمام الرازي والتي تحيل مشكلة الألم إلى معضلة يعسر البت في أمرها مطلقا وتحصيل القول الفصل فيها نهائيا وبذلك تطرح مسألة الذاتي والموضوعي في أمر الإدراك طرحا ملحا طالما أن الألم الذي طال جميع الناس يعسر- لبداهته- عليهم أمر تحديده فهو "من الأحوال النفسية الأولية" أي أنه في مقاما لمعطيات الثابتة المشتبكة مع الوجود الطبيعيDasein للإنسان وبالتالي فتجريد العقل في أمرها يبقى دون أن يبلغ الانفصال التام بأن يحيلها إلى مواضيع تأمّل "محايدة" يجري عليها تجارب مخبرية صارمة يستخلص إثرها النتائج، ولكن ذلك أمر لا يقدر العقل أن يدلي فيه بدلوه لأنه غير مؤهل للخوض فيه، فالآليات العقلية غير فعالة إذا ما اتخذت أحوال النفس مجالا لاشتغالها فضلا عن عوائق أخرى تتصل بوصف عملية النظر العقلي هذه وهي تتمثل أساسا في "عدم اتفاق العلماء على اصطلاحات الحياة الوجدانية" . أما إذا أردنا استقصاء مواقف المذاهب الفلسفية من ثنائية اللذة والألم فلنا ميراث هائل منذ أبيقور والرواقيين وأرسطو إلى المذهب الوجودي.. من الأقوال و"الحكم" والمواقف ولكن الجمال ليس بمقتض منا استعراضها يكفي أن نورد فكرة المتشائمين التي تلخص مذهبهم في الحياة فالألم عندهم "حقيقة الحياة" . • الألم ذلك العمق الوجودي يبقى مبحث الألم من أثرى المباحث التي تغذّي وتعمق النقاش الفكري عن منزلة الإنسان في الكون وعن نظرة الإنسان إلى نفسه، إلى ذاته كما يدركها ويتعقلها في مختلف حالاتها. فالنظر إلى الألم بالنسبة إلى الإنسان الحديث يتجاوز مظاهر الانزعاج والخوف والقلق التي كانت مسيطرة على الإنسان ذي المعتقدات الأسطورية، فتحول الألم من قدر مكين إلى مبحث تتنازع أقطاره الفلسفة وعلم النفس والطب، دون أن تنكشف كل أسرار الألم الذي تحول في المشهد الأدبي إلى معلم قار وميسم بارز يعكس اهتمام الإنسان بذاته جسدا وعقلا وروحا باعتباره مكمن الخير والشرّ. فالمقاربات الأدبية لقضية الألم تستدعي القيم الأخلاقية والمباحث الفلسفية والميتافيزيقية مما يجعل الفكر الإبداعي كما تجلى في الآثار التراجيدية خاصة، في إجابته على سؤال الألم (أو الشرّ) بالقدر، يرج في الآن ذاته الإجابتين المتناقضتين بالمعنى الكلي وباللامعنى المطلق. وبالتالي يبقى التساؤل قائما وتبقى إمكانية تعليق الألم (أو الشرّ) بالقدر واردة، بالقدر بما هو آت لا ريب فيه أي بما هو رمز للموت الذي يحول ضجة الإنسان وحركته إلى سكون .