غصّ فضاء "باب المكينة" التاريخي بفاس عن آخره، مساء أمس الخميس، بعشاق الطرب الأصيل الذين حرصوا على حضور سهرة فنية مشتركة أحياها الفنان العربيان وديع الصافي ولطفي بوشناق، في إطار الدورة الثامنة عشرة لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة. وقدّم كل من المطربين المذكورين أغان أغلبها ذو نفحة روحية تفاعل معها الجمهور كثيرا. إنها لحظة استثنائية تلك التي عاشها الجمهور مع وديع الصافي ذي الصوت المتفرد والتجربة التي تربو عن الستين عاما، والرصيد الفني الذي يضم أزيد من 5000 عنوان أغنية وأكثر من 3000 لحن. أكثر من ذلك، هناك شيء آخر جعل وديع ظاهرة فنية بامتياز: ففي سن الواحدة والتسعين ما زال الرجل محافظا على عنفوانه وتألقه وحفظه للأغاني وخامته الصوتية القوية وموهبته الموسيقية الفريدة. مما استحق وقوف الجمهور وتصفيقاته الحارة تكريما له حين صعد إلى الخشبة؛ وتفاعل معه أعضاء الأوركسترا والكورال المغربي وإذا كان المثل يقول بأن ذلك الشبل من ذلك الأسد، فإن من مفاجآت السهرة مشاركة ابن وديع الصافي الفنان أنطوان الذي استقبل هو أيضا بحرارة، وغنى أغنية روحية تمجد المحبة والسلام والتسامح، بالإضافة إلى أغان أخرى شارك فيها والده. وإلى جانب "صوت لبنان" وديع الصافي وابنه الذي يعد بالشيء الكثير للساحة الغنائية العربية، كانت مشاركة لطفي بوشناق الذي يلقبه الكثيرون ب"بافاروتي تونس مشاركة لافتة ومميزة، مما جعل الجمهور يتأكد من جديد لماذا يعتبر هذا الفنان حاليا من أجود الأصوات على صعيد شمال إفريقيا والشرق الأوسط بل والعالم العربي ككل. وكان قد سبق الحفل مؤتمر صحفي عقده الفنانان بوشناق ووديع الصافي وابنه أنطوان؛ حيث أوضح بوشناق أنه "في ظل الانحلال الذي نعيشه اليوم٬ من المهم أن نغني من أجل الجمال والأخلاق والقيم النبيلة"٬ مؤكدا أن "الماديات طغت على حياتنا اليوم٬ في حين أن الروح هي معنى الحياة٬ بل هي الحياة". ووجه الدعوة إلى صناع القرار من أجل تشجيع استمرارية مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة٬ معبرا عن أمله في أن تحذو دول أخرى حذو المغرب في تنظيم مشاريع فنية مماثلة. واعتبر الفنان بوشناق أن "هذه المهرجانات لديها رسالة مهمة٬ وهي أن الشعوب تتفاهم فيما بينها بكل جيد٬ ونحن هنا لنبني جسورا فيما بيننا"٬ مؤكدا بأنه ليس هناك ما هو أفضل من مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة يمكن أن يتيح الاحتفاء بالجمال والحب الكوني. وديع الصافي٬ الذي لم ينل تقدمه في السن من حضوره الفني كشف عن سر استمراريته في هذا المجال في وقت اختفى فيه آخرون قائلا "السر هو أنني أحب الكلمة الجميلة٬ وتربيت في بيت فيه تقوى ومبادئ .. وفن أيضا". من جهته٬ أوضح أنطوان وديع الصافي٬ أن الجمهور اليوم "في هذه الأوقات العصيبة٬ في حاجة إلى موسيقى توحد الشعوب مهما اختلفت الأديان و الأعراق"، معتبرا أن "الأخلاق والصدق والحب والعطاء مفاتيح للنجاح"٬ مذكرا بأن "الإنسان لا يمكن أن يعيش سوى بالقيم العالية٬ سواء كانت من خلال الفن أو بغيره". والجدير بالذكر أن وديع الصافي، واسمه الحقيقي وديع بشارة فرنسيس، استطاع أن يحافظ على رونق الموسيقى العربية وتراثها الغني. شارك سنة 1938، وهو في سن السابعة عشرة، في مسابقة للغناء نظمتها إذاعة الشرق الأدنى، فلقي نجاحا كبيرا، وكانت تلك بداية مسيرته الفنية بأداء الزجل اللبناني، قبل أن يغني باللغة العربية الفصحى ويشرع في اغتراف نصوص أغانيه من دواوين الشعراء العرب المشاهير. وفي غضون تلك السنوات، لحن له فريد الأطرش مجموعة من الأغاني الشهيرة. وهو يوظف الزجل للحث على التحلي بالروح الوطنية والإخلاص والتخلق والقيم النبيلة. عمل وديع الصافي في البرازيل من سنة 1947 حتى سنة 1950، وخلال مقامه هناك لفت انتباه الجالية اللبنانية، وقد ذاع صيته ابتداء من سنة 1957 عقب مشاركته في مهرجان بعلبك. أما المطرب لطفي بوشناق فهو مغن وعازف على العود وملحن؛ إنه فنان ملهم ذو جاذبية قوية تلهب حماس الجماهير العربية خلال حفلاته الموسيقية. بصوته الجهوري وسعة سلم أنغامه وجودة تعابيره المتميزة، يكرس جهوده للريبيرتوار الكلاسيكي العربي وللتراث الجميل. يؤدي فن "المالوف" التونسي بجسارة استثنائية، ويعزف على آلة العود ببراعة. وقد تمكن لطفي بوشناق خلال السنوات الأخيرة من غزو قلوب عشاق الموسيقى والطرب الراقي في مختلف البقاع العربية وحتى في المهجر. وفي مطلع التسعينيات ساهم تعاونه مع مجموعة الكندي في التعريف به لدى الجمهور الغربي. دفعه إيمانه القوي إلى أن يخصص قرصه الغنائي الأخير لأسماء الله الحسنى.