يحمل موت الشعراء معنى مختلفا عن المألوف. يصير الغياب حضورا بعد أن كان غيابا في المطلق. يدثر الموتُ الشاعرَ بحياة تمتد في اللازمن. أما وإن كان الشاعر الغائب في زهرة العمر فإن غيابه يحمل معنى مغايرا تتوحد فيه ذوات الأصدقاء والأحباء بذاته لتنصهر فيه ومن خلاله. ولعل الغياب المبكر للشاعر منير بولعيش يحمل ضعف المعنى. فهو بقدر ما كان في حياته متواريا عن الأضواء ومتخفيا في ذاته بقدر ما أمسى من خلال موته قمرا ساطعا يتسابق الجميع للاستئثار بقبس من ضيه. هو الراغب في التدثر بالكلام المباح في غفلة عن المعنى الملموس للكلمة التي تخفي قشرتُها جوهر الوجود. هو اللائذ بصمته، المحتمي بابتسامته الخجلى من هيبة المكنون. لم يكن ليعرف للجحود وجودا... يحتفي بأسرار القصيدة في عالم جواني مشرعة أبوابه على الشعر. مقهاه باريس وجلساؤه رواد من نوع عام. صديق الوجوديين وعدو العدميين. إنه منير بولعيش كما اسنشقته في عبوره الحميم من ضفة الأمل إلى ضفة الألم. يقطع شوارع المدينة من حي درادب إلى البوليبار بخفة الفراش، بخلسة النساك، تدثره نسمة هواء عليل قتلته علته. آمن بالقصيدة في محراب طنجة على مرأى من أصدقاء الدراسة ورفقاء الفراسة. هو هو لم يتغير منذ عرفته، وديع في خجله، صموت في وده، نقي السريرة ونظيف العشيرة، قارئ لا يجهد وكاتب لا يتعب... من أين يا ترى جاء بهذا العمق في النظرات والزهد في الظهور والبذخ في الحياة كمتصوف ارتقى به معراج المحبة إلى منتهى الوهج حيث جمرة القصيدة تتشظى كبريت شعر. ينقر الحروف بين شفتيه خجلا أو متعجلا للعودة إلى صمته بعد برهة كلام. ينظر إليك بعنين يغشاهما النور وكأنه في عجلة من أوبته إلى جوانياته. لا يأبه لصراع ولا يستأثر بحديث. ظلُّه ظلَّ يحمي جيله من تيهان الثقافة المأجورة. لم يكن ليرضخ لسلطان غير الشعر. تجده في المحافل متخفيا بشَعره الغزير الساقطة خصلاته على نظارتيه الطبيتين. لم يأبه العديد لحضوره إلى أن أعلن موتُه سلطةَ نصه. ذاك هو الشاعر كما عرفته قريبا وبعيدا في آن. وكم استرقنا من الوقت الهارب لحظاتٍ صنعنا منها صداقة رسختها الأفكار ووهَّجها الحرف واللون. ومن هذا اللون الباذخ في تواضعه وانسيابيته بين أزقة ومقاهي طنجة صنع منير بولعيش صورة قصيدته التي ظلت تشبهه إلى أن صارت پورتريها شخصيا له يقتسمه ومدينته التي أهداها شِعره وحياته في ديوانه «لن أصدقك أيتها المدينة» الصادر عن السليكي إخوان عام 2009.