افتتح ورقتي هذه بتوضيح منهجي ، اذ ساتعامل مع الزجل كخطاب ادبي ، له خصوصيته ، نعم ، ولكنه لا يخرج عن الخصائص العامة للخطاب الادبي ، والشعري منه خاصة. اما فيما يخص عنوان الندوة ( الزجل : الروافد والامتدادات )،فهو عام ويتيح مقاربة جميع الاسئلة المرتبطة بالمنجز الشعري الزجلي المغربي ،وعليه ارتايت ان اقارب الخطاب الزجلي من زاوية محددة هي التلقي ، والتي قد تتكامل مع غيرها من المقاربات الممكنة لهذا الموضوع الاشكالي. وفيما يخص تعريف التلقي فساركز على التالي: * اقسام التلقي : وهي ثلاثة : / 1/ التلقي الذوقي، وهو عبارة عن تمثل كلي ، ويكون مختلفا من متلق الى اخر، ومن زمن الى اخر.
2/ التلقي كتاويل استراتيجي ، فبعد التذوق ، والتموقع بعيدا عن الخطاب الادبي( نص او غيره) تبدا عملية بناء النص/ الخطاب ذهنيا ومن جديد. فالمتلقي يقوم بعملية تقصي للمعنى من خلال بنية مجازية ادبية ( او غيرها)، أي محاولة تقص للمعنى الخفي، بواسطة استنباطه عبر العلامة الاسلوبية..
3/ التلقي كقراءة تاريخية لاعادة افق الاستشراف : اذ يرتبط الخطاب بسياقه التاريخي ، فيعمل المتلقي على فهم تاريخي للخطاب محاولا وعيه ضمن صيرورة اجتماعية تاريخية تحدد منزلته او مكانته. وهنا يكون الخطاب احاديا ، والتلقي متعديا.
* آراء نقدية : سنعمل على عرض عدة تصورات لمفهوم التلقي عند مجموعة من الباحثين المعروفين ، لنستخلص لاحقا نقط الالتقاء بينهم ، ولنستنتج تصورا عاما ومركبا للتلقي.
1/ القراءة / الاشتهاء ( رولان بارت): يرى بارت ان القراءة كتلقي هي اشتهاء ومعاناة جمالية ، تصل الى حد درجة متعة صوفية ، بل ان الاشتهاء يتخذ شكل علاقة ايروسية .لكن فهم بارت هذا للتلقي يؤخذ عليه كونه يكرس تبعية المتلقي للنص( لذة النص)، ويحصر علاقته بالخطاب في نزعة انطباعية محتشمة.
2/ القراء / التنشيط ( امبيرتو ايكو): يعتبر ايكو ان النص / الخطاب الة كسولة ، يعمل المتلقي على تحريكها وتنشيطها ،وهكذا يقترح ايكو مفهوم : القارئ النموذجي كمتلقي مشارك وقادر على تحيين الخطاب، ويفترض فيه توفره على امكانيات اهمها : تملك رصيد لغوي ثقافي يمكنه من التواصل مع مرسل الخطاب ،وقدرته على موقعة الخطاب في سياق اعم منه ، وقدرته على التمييز بين الواقع المتخيل والواقع القائم او المشار اليه لتحقيق صورة لعالم ممكن.
3/ القراءة / التاويل ( هانس روبرت ياوس): يركز ياوس كثيرا على مفهوم " افق الانتظار" الذي يحكم علاقة المتلقي بالخطاب. كما يؤكد على الصيرورة التاريخية المؤطرة لعلاقة المؤلف بالمتلقي والماضي بالحاضر ، ويفترض في المتلقي امتلاكه لخبرة سابقة عن النوع الادبي المتلقى ، وكفاءة التناص( أي موقعة النص داخل شبكة اكبر منه)، والمعرفة والقدرة على التمييز بين لغة الخيال والواقع اليومي، وهو هنا يكاد يتطابق مع ايكو.
4/القراءة /بناء المعنى( وولف غانغ ايزر): يفترض ايزر وجود قطبين : النص كانتاج للمؤلف/ المرسل ، وقطب جمالي ينتج عن التفعيل الذي يقوم به القارئ ( يلتقي هنا مع مفهوم التنشيط عند ايكو ، والتشارك عند ياوس). ويركز ايزر على مفاهيم اساسية هي : 4/1/ سجل النص : أي ما يعتبره كمواد خام واولية او نصوص اخرى او اعراف وقيم اجتماعية وثقافية ( ما سمته الارضية بالروافد) ، او ما سماه ايزر بالسياق السوسيوثقافي العام( يلتقي مع ياوس في اهمية الصيرورة التاريخية). 4/2/ استراتجية التناص : أي نسيج او مجموع شروط التلقي التي تؤطر علاقة المتلقي بالسياق والمرجع. 4/3/ مواقع اللاتحديد : او مايسميه ايزر بالفراغ الباني، أي مجمع البياضات الموجودة عنوة ( عمدا) داخل النص ، والتي تتيح للمتلقي التدخل ليساهم في ملئها ، أي التموقع في المسافة الفاصلة بين الموضوع وافق الانتظار.. 4/4/ بناء الاطار المرجعي : قد يخلخل الخطاب الابداعي مرجعية المتلقي ، فيضطرهذا الاخير الى البحث عن اطار جديد يقربه من المرسل/المبدع. وهكذا نستنتج ان التلقي هو عملية تملك او تخصيص نشيط للمؤلفات وعموم الخطابات الابداعية ، تعدل وتغير قيمتها عبر الاجيال ، فالمتلقي يقوم بعدة عمليات وهو يتلقى الخطاب : التغيير ، التصحيح ،ثم التعديل واعادة الانتاج ، وعبر هذا يقوم بوظيفته التاريخية : تحيين الخطاب ، التمتع والتقويم ، من اجل تحقيق الاعتراف/اللاعتراف في النهاية. ان التلقي عملية جد معقدة ، لكنها فاعلة في منح الحياة للخطاب الابداعي. فكيف يمكن بناء استراتيجية لتلقي الخطاب الزجلي؟؟؟( خاصة الزجل المغربي)؟؟.
* من أجل تاريخ للزجل : الحاجة الى تاريخ للزجل هي حاجة للاعتراف بثقافتنا الشفاهية ، وضمنها مجموع انواع الثقافة الشعبية ، والزجل تعبير شعبي فني ادبي، يستحق ان يكون له تاريخ سيضمن لنا : ابراز التراكم الحاصل فيه ،وحماية خبراتنا الشفاهية والشعبية المتجسدة فيه.فكيف يمكن الجمع بين التاريخ ، المرتبط بما هو مدون / مكتوب ، والزجل ، كخطاب شفاهي ؟؟ في الزمن الحاضر اصبحت للبشرية امكانيات هائلة للتوثيق، وما الكتابة سوى احداها، لذلك يمكن الاستفادة من تجربة تسجيل الملحون في اقراص ، وتدوينه في موسوعات ، والبحث عن امكانيات اخرى ترتبط بالمعلوميات والانترنيت وغيرهما.. فما علاقة التاريخ بتلقي الزجل ؟؟؟ من خلال استعراضنا لتصورات عدة باحثين حول مفهوم التلقي ، سجلنا تركيزهم جميعا على اهمية السياق /المرجع، والتاريخ ، والبعد السوسيوثقافي ..ومن هنا فتفكيرنا ، ثم عملنا ،على تاريخ زجلنا المغربي ، هو اول خطوة في توفير تلق ناجح له. * اشكالية المحلية في المعجم الزجلي : يسجل رولان بارت بقوة ان المعجم المشترك بين الكاتب /المرسل ، والقارئ / المتلقي يحقق التواصل ويضمنه. وسجلنا خلال محاولة تحديدنا لمفهوم التلقي ان المتلقي لابد ان يمتلك رصيدا لغويا وثقافيا ، سواء كان متلقيا عاديا او فقيها( المتمكن/الدارس/الناقد..).وزجلنا المغربي ، كغيره من الازجال العربية وغير العربية( سواء بمحكيات محلية عربية او حسانية او قبطية او نبطية او امازيغية او كردية ..) فانه يحقق تواصله بواسطة معاجم تتاسس على الفاظ محلية ،او جهوية او اقليمية.. ويمكن ان ننظر الى المحلية من زاويتتين: ا/ نظرة ايجابية : فتعدد اللهجات ، مرتبط بتعدد الجماعات اللغوية ( حوالي 6 الاف لغة في العالم)، وهو باب ينفتح على التنوع، ويتيح حرية في انتاج اللغة والتعبير عن وقائع قد تكون متشابهة. انها علامة على حيوية قوية وغنى لغوي.( واهمية التعدد اللغوي معروفة في الكتابات الحكائية : القصصية والروائية / خاصة نظرية باختين). ب/ نظرة سلبية : تصبح المحلية المفرطة معيقا امام التلقي السليم للزجل كخطاب ادبي ، وتعسر فهمه.. ولحل هذا الاشكال يلجا بعض الزجالين المغاربة الى تخصيص هوامش لشرح بعض المفردات الصعبة والموغلة في المحلية. وهي ظاهرة لا ترتبط بالزحل وحده بل تشمل الرواية والقصة والمسرحية. ومن الحلول الممكنة الاشتغال على اعداد قواميس خاصة بالزجل المغربي ، والتي يعتبرها الزجال ابن العطار وسيلة لانقاذ الذاكرة المعجمية من الضياع ( في حواره مع جريدة المنار/ ع :26/2011). ولعل الحل الممكن الرهان عليه – الى جانب ما سبق ذكره- يكمن في الرهان على تحقيق تراكم قوي – وهو امر يتحقق بالتدريج وبالملموس راهنا- وجعل الزجل خطابا حاضرا في حياة الناس ، وقريبا منهم ، مثل ما تحقق ذلك للازجال المصرية ( الابنودي/ نجم ../ والكل يذكر كيف ساهم الزجل في الثور من خلال نسج الشعارات وترديد الاغاني ..).ولا بد من توطيد العلاقة بين الزجل المعاصر والاغنية المغربية، وبينه وبين المسرح والسينما ..ولما حتى التشكيل...
*إشكالية المنهج النقدي : او هل نبحث للزجل عن مناهج نقدية خاصة به ؟؟ في مقدمة هذه الورقة اشرت الى اني ساتعامل مع الزجل كخطاب ادبي ، وهذا انحياز الى تصور نقدي ، يتبناه غيري من الباحثين في الموضوع من زوايا – ربما مختلفة ومتنوعة – ومن هنا اسجل ان بناء استراتيجية لتلقي الخطاب الزجلي عموما ، والمغربي خصوصا ، تقتضي الحسم في هذه الاشكالية ، والحسم ليس امرا سهلا بكل تاكيد وليس رغبة ذاتية او ارادوية مصطنعة ، بل سيكون امرا جديا ، ومسؤولية جماعية لكل المهتمين بهذا المجال.. ولاباس ان اقترح هنا بعض الافكار :
ا/ في نقد الحاجة لنقد خاص بالخطاب الزجلي : نعم للزجل خصوصيته ، من حيث كونه خطابا ادبيا شفهيا ، ولكن البحث في خصائص خطاب ادبي ما ، لم تكن في يوم من الايام سببا كافيا للتنكر لكل الانجازات النقدية السابقة في المجال الادبي. واقدم هنا مثالا ، بعيدا عن الشعر ، حتى لا اذكر ثنائية الفصيح/الزجل التي هي متار التباس..المثال يرتبط بالسرد ، ويمكن الحديث عن ثلاث دوائر : السرد العام ، السرد الروائي ، السرد القصصي ، والنقد عندما يواجه نصا للجاحظ ، ورواية للطيب صالح ، وقصة لمحمد برادة ..الاكيد انه سيسجل وجود مشترك بينها ، ولكنه سيسجل ايضا خصوصية كل من هذه الخطابات السردية الثلاث. ولكن لا احد يمكن ان يدعي ان للقصة نقدها الخاص ، وللرواية كذلك نقدها الخاص ، وللسرد عموما نقده الخاص ، بالمعنى الدقيق للخاص ..بل ، وهذا معروف ادبيا ، ان النظرية الشعرية مع جاكبسون ، وغيره ، في تطويراتها المتنوعة ، كانت تبحث في القوانين العامة للادب ، حين طرحت سؤالها الاشكالي : ما الذي يجعل من قول / خطاب ما قولا/خطابا ادبيا ؟ واقول هنا بضرورة الاستفادة من منجزات النقد الادبي ، وخاصة نقد الشعر ، مع تعميق البحث في خصوصية الخطاب الزجلي ، وبالضبط في قضايا الايقاع ، وخصائص اللغة المحكية وجماليتها ... مع الاستفادة من المعارف الانسانية ومستجداتها ...
ب/ في نقد الاستعمال الاسقاطي للمناهج النقدية على المنجز الزجلي :
اذا فهم حديثي على انه رفض لاطروحة تخصيص نقد للزجل وحده ، فانا ارفض بقوة استعمال مناهج جاهزة واسقاطها على الخطاب الزجلي بشكل متسرع او متصنع ، فمسالة الاسقاط هي مرفوضة مهما كان الموضوع المدروس : زجلا او رواية او غيرهما .. فمن اجل تحقيق استراتيجية سليمة لتلقي الخطاب الزجلي ، لابد من الحرص على المصداقية في تطبيق المناهج النقدية ، وجعلها مرنة قصد استيعاب شعرية الخطاب الزجلي وخصوصيته ،و التي هي ليست بالخصوصية المتقوقعة وانما المنفتحة ، وكل منهج نقدي او مقاربة نقدية لا بد ان يتوفرى على هامش من التجديد والتطوير يضمن لهما التجدد المستمر..ولان التلقي هو احتفال بالمعنى ، فان الخطاب الزجلي سيظل شكلا تعبيريا ينتج المعنى/ المعاني بامتياز..
4/ اشكالية التداول ( الطبع/ النشر / التسجيل..): الطبيعة الشفهية للزجل ، وغياب المعيارية النحوية والمعجمية الرسميتين ( كل لغة مقعدة لها معياريتها) جعلت من النشر بواسطة الطبع ظاهرة مفارقة ..لكن هذه الظاهرة او العملية الحضارية حققت تحولا ملموسا في تداول الزجل ، اذ ساهمت في التاريخ له ( وهو مطلب اشرنا اليه سالفا)، وتوثيقه وتحقيق تراكم مهم فيه ،وتجاوز ثنائية المكتوب الشفهي ..ثم ظهرت فيما بعد تجربة الشريط المسجل وتجربة القرص المدمج ..ولعل هذا يساهم بكل تاكيد في حل بعض الاشكالات الفنية والتواصلية ، كما قد يطرح اشكالات جديدة تستحق الاهتمام..والاكيد- ايضا - ان هذا كله يساهم في توفير تلق سليم للخطاب الزجلي. اما المفاضلة بين النشر بواسطة الطبع ، والنشر بواسطة التسجيل ، فلن تكون سوى في صالح الزجل : فان كان الطبع يوفر التوثيق والتاريخ ، فانه مرتبط بنخبوية القراء ( وهو امر لا يخص الخطاب الزجلي وحده).في حين يعتبر النشر بواسطة التسجيل اكثر جماهيرية ، واكثر قربا من طبيعة وخصوصية الخطاب الزجلي حصريا ، والشعري عموما ، وهي : الانشاد المباشر ( ننتقل من التلقي / القراءة في الطباعة ، الى التلقي / الاستماع في التسجيل سواء بالشريط اوالقرص). ولكن الاستماع لا يحقق التوثيق الكافي / التاريخي ( مشاكل الذاكرة والتذكر..). وعلى العموم فكل هذه المحاولات تساهم في نشر وتعميم الزجل ، يضاف اليها الامسيات الشعرية في الملتقيات ، مثل ملتقانا هذا..والحال هذه ما علينا الا تشجيع الجميع ، فلا تناقض ان يطبع الزجال او يسجل قرصا او شريطا ، او ينشر عبر الانترنيت ..ما دام التراكم سيمكننا من الفرز والاختيار لبناء ادبيات خاصة بالخطاب الزجلي..
* خلاصة : ان العمل على تاسيس تاريخ ادبي للزجل ، والتفكير في لغته ، ودراسة فنيته ، والعمل على نشره ، هي خطوات متعالقة للنهوض باستراتيجية ناجحة لتلقيه وتمكينه من موقع محترم داخل خريطة الانواع الادبية الانسانية. ولقد حان الوقت ليصبح الخطاب الزجلي موضوعا مدرسيا في مقرراتنا التربوية ، وبذلك سنساهم في تسريع خلق تراكم مهم في ادبياته ..
- الهوامش : 1/ مجلة علامات / ع: 10/ 1998. 2/ نسيج النص / الازهر الزناد / المركز الثقافي / ط:1993( ص: 176). 3/ نظرية الادب في القرن 20/ ت. محمد العمري/ افريقيا الشرق/صص: 143/160.