لقد قالوا لي بأن التجوال في هذا الشارع له نكهة خاصة. ماذا أشاهد؟ الناس مجموعات وفرادى يتحركون في هذا الصباح المشمس. بعضهم يمشي متعجلا يريد أن يقضي غرضا ما قبل الزوال، والبعض الآخر تراه يثقل الخطو شاخصا ببصره إلى السلع المتنوعة المعروضة في واجهات المتاجر. شمس هذا الصباح ترسل أشعة صفراء باهتة، تلمس المحيا فتشعل فيه نار رغبة مكبوتة ولكنها حية في الأعماق تنتظر الفرصة للتشخص والبروز. أسير وسط هذه الجموع ولحن عبد الوهاب الدكالي: "ما أنا إلا بشر، عندي قلب ونظر". يرن في أذني ويأذن للعاطفة بالانزلاق ويبرر كل هذا السقوط والتيه. ربيت على العفة والصدق والقناعة. في الحي القديم حيث ولدت وترعرعت، كان أبناء الجيران ينادونني ب "عزيز الصديق"، البعض الآخر إما تهكما أو حسدا يلقبني ب "عزيز النية". ماذا دهى هؤلاء الناس حتى يغرقوا من حيث لا يدرون. ما أجمل أن تكونا صادقا مع نفسك ومع الآخرين! لا أنام مرتاحا إذا كذبت أو ظلمت شخصا. تربيت على حياة البساطة والنزار في مجتمع كان سادته هم العمال. اللحن يسري في عروقي كالمخدر. ألفته منذ طفولتي، أصبح جزءا من ذاتي العميقة ينسيني همي وغمي. أتجول في هذا الشارع للتفريج عن كربي، وإيجاد منفذ نور إلى تناغمي الأصلي وسجيتي الأولى. زوجتي إلهام هجرت الشقة وتركتني وحيدا في مواجهة المأساة. قبل العودة إلى منزل والديها صاحت بي: "لن أقبل بك زوجا لصا، أنت لست عزيز زمان، عزيز البراءة ومناجاة الطيور، خنت الأمانة الملقاة على عاتقك، فيا ويلتي منك ويا بئس اختياري!" ذهبت إلهام وتركتني لمصيري المظلم. كيف نزلت إلى الحضيض يا عزيز، فق إلى نفسك وعد إلى جادة صوابك يا عزيز، شعور بالحزن والترقب غمرني. لحن عبد الوهاب الدكالي يرن في أذني. طفولة ومراهقة كلها جد وعمل. لا أستريح إلا في الأيام الأولى من العطل وبعد ذلك أعود إلى دروسي أراجعها. أستمع إلى حكايات جدتي عن زمان راح وولى، عن زمان كان الصدق والطيبوبة والقناعة هي السمة الغالبة على أهله. أستمع فأنتشي وأفرح وأضحك من الأعماق وأحدث نفسي "يا ليتني عشت في تلك العصور الموغلة في القدم". كانت الفرحة الكبرى وبزوغ الفجر لما حصلت على البكالوريا. إلهام ابنة الجيران كانت من المهنئين الأوائل. نظرت إلي بعينيها الواسعتين نظرة عميقة جعلت نبض قلبي يسرع و ابتسمت لي ابتسامة طويلة خفيفة دون أن تبين أسنانها فوعيت المقصود، كأنها تهمس لي : "الآن يحق لك أن تطمع في". قلت لها "سأخطبك من أهلك". قالت لي: "لا تتعجل، بعد تخرجك سنحقق كل الأحلام". كنت متعجلا فعلا، لم أطق صبرا على محبوبتي بعد أن قرب زمن الوصل ولاحت فرصة اللقاء. انتسبت إلى معهد عال للتكنولوجيا واخترت شعبة لا تتعدى الدراسة فيها سنتين. حصلت على دبلوم في المحاسبة فأضحت الطريق واضحة. طرقت أبواب عدد من الشركات واضعا طلبات التشغيل وراسلت عددا من الجرائد في الأمر فكان الأمل الكبير بعد ورود الجواب بالقبول من ثلاث شركات. اخترت أكبرهن وأقدمهن وإلهام تؤازرني وتشجعني على الثبات على الأصل وعدم الاغترار أو تغيير الجلد، استقبلت من طرف رئيس مصلحة العمال بالشركة، بين لي جميع حيثيات الشغل. بعد تدريب دام سنة، انتسبت بصفة رسمية للشركة. تزوجت بإلهام وأقمنا حفلة زفاف. اكترينا شقة. مدخولي يكفينا نحن الاثنين. كانت تلك سنوات عيشة هنية وعمل صالح. نقضي أجمل العطل في مصطافات بلدي العزيز الشاطئية منها والجبلية. وأعود إلى العمل مثابرا مجدا متحمسا. و لكن ذئاب طامعة كانت تتربص بي الدوائر. ثلة من معاوني مدير الشركة طلبوا مني الاجتماع بهم خارج أوقات العمل في حانة بعيدة توجد في ضواحي المدينة. قبلت الطلب. دخلت في دوامة من القلق والحيرة متسائلا عن سبب هذا الطلب. ألست في مستوى المسؤولية؟ هل ارتكبت خطأ مهنيا دون شعور مني؟ أزفت ساعة اللقاء، شرحوا لي مبتغاهم، كانت المفاجئة الكبيرة. يريدون مني الدخول في لعبة تزوير حسابات وطمعوني بحصة كبيرة من المداخيل يسيل لها اللعاب ولم يتركوا لي أية بارقة أمل في التنصل من المشاركة معهم في جريمتهم. قال لي كبيرهم: "اسمع يا عزيز، لنا اليد الطولى في الشركة، إذا لم تقبل التعامل معنا فإنك ستفصل من الشركة لأن منصبك هو الحلقة الأساسية في مخططنا"،ً قلت لهم "سأرد عليكم الجواب غدا". لم أنم تلك الليلة، فكرت مليا. استدعاء الشرطة بدون حجة ثابتة سيجلب لي مشاكل أنا في غنى عنها. التهديد جدي وعروض الشغل نادرة في هذه الأيام. فأجبت الذئاب أن استغلوا مركزي لتخونوا الأمانة من أجل فلوس فانية ستكوون بها يوم القيامة. ربحت أموالا كثيرة أنامت الضمير وقتلت كل رغبة في السؤال. موهت على إلهام بالترقية. لم أكشف لها عن تصرفاتي في الشركة.عشت أنا وزوجتي في رغد ونعيم. ذات ليلة، كنت مخمورا للغاية فأفشيت لزوجتي سري دون وعي مني، فما كان من إلهام إلا أن لطمت الخدود و شقت الثياب. غضب زوجتي و تركها عش الزوجية كان الفتيل الذي أشعل نار الثورة في صدري. كيف انزلقت إلى الدرك الأسفل يا عزيز؟ أتجول في هذا الشارع ورنين اللحن ينشيني. فجأة أسقط على الأرض بفعل دفعة قوية وقوم غاضبون يصيحون في أن انتبه أيها الغافل، لقد كادت تدوسك سيارة مارقة لولا خفة أيدي أحدهم. حدثت نفسي "هذه رسالة ربانية تدعوني إلى مراجعة النفس والثورة على الذئاب". دخلت مخدعا للهاتف وتلفنت مباشرة للمدير العام للشركة. رويت له الواقعة بكل حذافيرها، طلب مني المحافظة على سرية المكالمة إلى أن يقبض على الجناة متلبسين وأمنني على منصبي. خرجت إلى الشارع أتجول وأغنية عبد الوهاب الدكالي ترن في أذني "ما أنا إلا بشر، عندي قلب و نظر"ً.