*** ساهمت دول الخليج برمتها في إثراء الثقافة العربية من زاويتين، أولها أنها اتجهت إلى احتضان تآليف مجموعة من الكتاب و الأدباء العرب الذين يعجزون عن طبع كتبهم، و تسويقها داخل أوطانهم أو خارجها، سواء كانت هذه التآليف من بنات أفكارهم خالصة، أو كانت ترجمة لكتب شهيرة، ألفها كتاب أجانب ذائعو الصيت.. أما الزاوية الثانية فتتمثل في قيام هذه الدول عبر وزاراتها، أو مجالسها العليا الثقافية إلى تسعير هذه الكتب المطبوعة بأثمنة بخسة، تستجيب للقدرة الشرائية للمواطن / القارئ العربي، خصوصا و أن الدخل الفردي للقارئ العربي – باستثناء المواطن الخليجي – لا يسمح حتى بشراء جريدة يومية كل أسبوع. لقد عملت الدول الخليجية بنشاط و حماس و رؤية قومية على تطوير البنية التحتية للثقافة العربية منذ الخمسينيات من القرن العشرين الماضي و إلى حدود أواخر الثمانينيات من نفس القرن، حيث نشرت و سوقت لكتب عربية و مترجمة في شتى مجالات الثقافة و الفكر و الفلسفة ، و هو ما زاد من ثراء المكتبة العربية، و سد كثيرا من ثغراتها هنا و هناك. و لعل أهم ما ميز حركة النشر في هذه الفترة المشار إليها آنفا، هي محاولتها الإرتقاء بالوعي السياسي للقارئ العربي، و إكسابه نوعا من الحصانة ضد الاستبداد و الجهل و الفساد.. و هو ما عكسته طبيعة العناوين التي حملتها الكتب أو المجلات المطبوعة في الكويت أو قطر ( مجلة الدوحة و الأمة ) أو السعودية. غير أن هذه الحركة – رغم ما حققته من نتائج باهرة على مستوى تغيير الذهنية العربية التي كانت وليدة ثقافة كلاسيكية جامدة و متعفنة – سرعان ما أبطأت من حيويتها و قوة تأثيرها، بعد أن أدركت أن هذه النتائج باتت تهدد أنظمتها السياسية المنغلقة و السلطوية.. و هذا النكوص الذي وقعت عليه الدول الخليجية بسبق إصرار و ترصد، لم يتخذ صورة التقليل من عدد المطبوعات، و إنما اتجه نحو اختيار مواضيع و كتب لا تهم القارئ العربي من قريب أو بعيد، و لا تمكنه من بناء ذاته الحضارية المتشبعة بقيم الحوار، و الديموقراطية، و تداول السلطة، و التعايش مع الآخر الداخلي، قبل الآخر الخارجي. و يكفي هنا أن نتأمل مجلة " العربي " الكويتية التي كانت انطلاقتها في الخمسينيات ثورة فكرية و ثقافية و سياسية بكل المقاييس، قادتها أقلام متمرسة و متحررة الفكر من مختلف أقطار الوطن العربي، لكنها أضحت اليوم، و خاصة بعد الإحتلال العراقي للكويت، و حلول الوصاية الأمريكية، مجلة بدون هوية أو هدف، تصنعها أقلام لا تحسن سوى اللهاث وراء الدولار المغموس في الزيت النفطي. و نفس الأمر ينطبق على سلسلة عالم المعرفة أو عالم الفكر، و التي لم يعد أحد من القراء العرب يهتم بها أو يقتنيها لقراءتها، بدليل أن نسخا من جميع أعدادها تظل بالأكشاك و الأرصفة عرضة لأشعة الشمس الحارقة طيلة الأيام و الشهور، و لا أحد يلتفت إليها.. في الوقت الذي كانت فيه – خلال خمسينيات القرن المنصرم – تنفذ قبل أن توزع على الأكشاك. و عموما، فإن المطلوب اليوم من هذه الدول، هو أن تمنح لمؤسساتها الثقافية قدرا كبيرا من استقلاليتها الفكرية و المالية، تؤهلها لإعادة قراءتها للوضع العربي في شموليته، في أفق تحديد معالم جديدة لاستراتيجيتها الثقافية، و رؤيتها لبناء شخصية المواطن العربي وفق قيم المشاركة و المساهمة في صناعة القرار السياسي، و بناء الدولة الوطنية الحديثة المستقلة المتحررة من الوصاية الأجنبية.