الغيابُ سيِّدُ الوجود. في بلدي، تغيبُ المراقبةُ فتخرجُ الفِئْرانُ لِنَهْبِ المخازن والصناديق. بلدي كبير، من المحيط إلى الخليج ومع ذلك، أراهُ غائبا. ويغيبُ الحبُّ الحقيقيُّ فتحظرُ التجارةُ. ويغيبُ المعلّمُ، فتحظرُ الأمِّيةُ والجهلُ والانقطاعُ المبكّرُ عن الدراسة. ذاتَ نهارٍ غابت الشمسُ؛ ولم يحدث شيء... بل غاب العقل. في ذلك الكُسوف، خرجتُ أستقصي أحوال الناس فأخبروني بأنّهم غائبين. منذ ذلك التاريخ، صرتُ أنهضُ باكراً وأنادي على الناسِ والمبادئِ من خلال لائحةِ الحضورِ والغياب... وفي كلِّ مرّة، سجَّلتُ العبارة الآتية "غياب جماعي". في التاريخ، الكثير من الحقائق المغيَّبة... من يُغيِّبُ ماذا ومن ولماذا؟ هذا هو السؤال. ذهبَ العقلُ إلى خلاء ليستريح... الظاهرُ أنّه نسيَ نفسَه. في عهدٍ مضى، كان التغييبُ منهجاً تمارسُهُ الحكوماتُ لمصالحِها الأنانية. وفي العهد الجديد، وعلى الرّغم من الأعمال الهرقيلية التي ينجزُها بعضُ الملوك والرؤساء؛ ما زال التغييبُ حاضرا. تُغيِّبُ الحكوماتُ شعوبَها لأنّها غائبة أصلا عن "درس حبّ الوطن". في اختبار للحكومة، وجدتُ ورقة تحريرها بيضاءَ فارغةً؛ فأعطيتُها علامة "صفر". وككلِّ تلميذ كسول، احتجَّتْ عليَّ وهدّدتني باعتراض سبيلي بعد الساعة السادسة. فسألتُها:"لماذا حصّلتِ على علامة صفر في الاختبار؟". فأجابت ببلادة يُحسَدُ عليها: - لأنّني كنتُ غائبة في درسِ "حُبِّ الوطن". أتساءلُ كثيراً:ما هي درجةُ بلادة الحكومات ؟ إلاَّ قلّة الأدب وقلّة الفنّ؛ هاتان الإثنتان لا تتغيَّبا... تحظران الدرس كماردتينْ خرْقاويْن؛ كُلَّما كبُرتا، تقزَّمتا. - الرياضة؟ - غائبة يا أستاذ! - الصحّة؟ - غائبة يا أستاذ! - الثقافة؟ - تزوّجت بعجوز ميسورة. - الأحزابُ السياسية؟ - انحرفتْ – يا أستاذ – وصارت تتعطى "المُنوِّمات". - الصحافة؟ - رحمها الله... قتلتها الأحزاب. - التلفزيون؟... أنا لا أراه... - ترك الدراسة، واشتغل في التجارة والنصب والاحتيال والرذيلة. - المهرجاناتُ الفارغة؟ - أنا حاضرة يا أستاذ. - العبث؟ - حاضر يا أستاذ! - التخلُّف؟ - أنا دوما هنا يا أستاذ. - القمع؟ - أنا حاضر يا أستاذ. طيّب ! على كلِّ من هو غائب عن الدرس الحضاري أنْ يرفعَ إِصبَعَه! ... السيّدُ غيابُ الوجود. وفئران صناديق الغياب تُراقبُ بلدي. والغيابُ أراه من الخليج إلى المحيط؛ بلدي. والتجارة تحْضُر الحبَّ الحقيقي. والقهقرةُ سيّدَةُ الموقف... ولائحة الحضور غيّبها التلميذ الكسول؛ لأنّه حصّل على علامة "صفر" في درس "الحضور".