فرجينيا وولف، ونذكر قارئنا العزيز، بأنا لا نريد، أن نقدم حياتها البشرية، ولا الأدبية ككل، بل ككاتبة بريطانية أرستقراطية، من مواليد 1882م. كاتبة اشتهرت برواياتها الشهيرة، من أمثال:" أمواج" و " انطباعات"، وخصوصا " مسيز دالُوِيّ، هذه الرواية الداخلية، التي تدور أحداثها الزمنية كما المكانية،خلال ثمانية عشر ساعة. رواية انطباعية، في الظاهر الروائي، ولكنها في الدواخل النفسية المقهورة، هي صرخة أنثوية، تنادي بأنثويتها، كما في حقها الأنثوي الوجودي المختلف، في تحقيق شخصيتها في الوجود. "فرجينيا وولف"، كاتبة، ولكنها، في الوقت نفسه، عاشقة للأدب، ولجذوره، ولقدره، الذي لا يرحم، من دخل إلى متاهاته المتوحشة. لقد كتبت الكاتبة، ولقد احتفظت بمذكراتها الذاتية، وحررت لأكثر من ثلاثة آلاف رسالة. رسائل هي في غاية من الروعة، لكل من أقارب، وأدباء مشهورين، ورسامين، وصحفيين، وأناس في غاية البساطة البشرية. رسائل نقول عنها بأنها، كانت بالنسبة لها، ما يكن أن سمته هي، بالنفس الأدبي المبدع، وبالتمارين الكتابية المستمرة. أو بعبارة أخرى، التمرين الكتابي، لمن أبتلي بأفيون الكتابة. والكاتبة قد عاشت ظروفا صعبة، لانهياراتها العصبية المتوالية. وفي هذه الظروف العصبية بالذات، نعتت "فرجينيا" بالجنون، فالهبال، فالاندحار البشري إلى مستوى مستنقع السقوط. ولقد عانت، وتساءلت عن آلامها الدفينة، وحين لم يفطن أي أحد لمعاناتها، تناولت بضعة حجارة، ووضعتها في جيوب تنورتها، ونزلت في مرايا النهر العميقة، نزلت،ثم استمرت في النزول حتى غشيتها المياه، ولكنها لم تعد. لم تعد، لأن عبقرية الكينونة، تكمن في الفعل العميق الجذور، وليس في أماني العبور. هذه هي "فرجينيا" التي أردنا أن نقدمها لكم، في حلة قرائية حديثة، إذا صح التعبير. في حلة متعالية عن كل حكم مسبق، أو عن كل قراءة نقدية عالمة، سابقة لكل نهايات، روايات الموضوع. لقد كان في استطاعتنا، أن نقدم لكم الكاتبة، في حلل فضية، روحانية، لا مثيل لها في الوجود. ولكنا احترمنا موت النية، قبل نفوذ أحكام المتحكمون. وحفظنا في قلوبنا الندية، حفظنا لسيدتنا "فرجينيا وولف"، بأن قدرها أن تظل طوال الأبدية، مخلوقة لا تحيى ولا تموت. مخلوقة، نشأت، فرأت، فاحتجت، وبأنفاسها قد تضاربت مواعيد الثرى والثريا . ونكتفي بهذا القدر، من هذا التقديم، الذي شئنا أن يكون، تقديما بسيطا، لا أدبيا حماسيا، ولا ثقافيا مختالا، على رؤوس الأنام. فرجينيا وولف وثلاثة جنيهات "فرجينيا وولف"، هذه السيدة، التي قدمنا لكم نبذة عن حياتها، لها من ناحية الزوايا الأدبية، أوجه أدبية متعددة، ونقصد الروائية منها، والقصصية، والسِّيَرَ- ذاتِيًَة كما التراسلية - هذه التي تتجاوز رسائلها، ثلاثة آلاف رسالة. لها مواقف متنوعة، إلا أنه كان لها مبدأ واحد، مبدأ الكتابة النضالية الملتزمة، من أجل المناداة بمساواة طبيعية، من قبل أن تصبح صراخا شرعيا يندد بفارق المسافات، بين السيد والعبد المستعبد .نضال من أجل امرأة، وأم تطالب لها، لما في المساواة القانونية، ما للرجل، وتعني هي شخصيا، الأب، والأخ فالرفيق، وأخيرا، أسماهم جميعا، وتعني به الابن. ولقد جاءت رغبتنا في تحرير هذه المقالة، رغبة انتقاء موضوع سكت عنه، أو همش عمدا، لما له من قيمة تاريخية. وهذه القراءة التي اخترناها، قد وقعت على كتاب الأديبة "فرجينيا وولف"، الذي أخرجته للسوق تحت عنوان " ثلاثة جنيهات". وهذا لكتاب، يعتبر، ما قبل أخير ما طبعت المؤلفة، قبل رحيلها انتحارا. ولهذا الكتاب، بالرغم عنا، دلالات أدبية، بل نضالية شتى. فهذا الكتاب، قد خرج إلى الوجود، في مرحلة حرب عالمية، ونقصد الثانية. وهو حين نزوله إلى السوق، قد تناول بالنقد اللاذع، كل السلطات الأبوية الديكتاتورية. وهو لهذا بالذات كانت قد منع وصودر من الأسواق آنذاك. ودعونا نترك للكاتبة "فرجينيا وولف" تقديم مشروعها الكتابي بنفسها. فهي تقول بخصوص هذا المشروع الكتابي:" لم يتبين لي الجرح لأول وهلة. فقد، حين كنت أتناول حمامي، حينها فقط، خطر ببالي ذاك المشروع، فتصورت كل هذا الكتاب، كتاب يفشي ويعلن للملأ الحياة الجنسية السرية لدى النساء، إلهي ! كم سيكون هذا الكتاب مروعا وفاتنا". بالفعل لقد تصورت كتابا عن الجنس، إلا أنه، لأسباب نجهلها، قد أتى مخالفا. قد أتى، شبيها له بصرخة "المهدي بن بركة " و "التشي غفارا"، "وباتريس لومنبا". لقد أتى تنديدا بالعنصريات العرقية، وتقصد بها الكاتبة في بداية الأمر، استعباد المرأة، واستحقارها، واستهجانها، وإعادة استغلالها، في زمن تصاعد الديكتاتوريات الأبيسية "الفاشستية" الأوربية، من أمثال، نماذج هتلر، وموسيليني، وفرانكو. ولهذا السبب بالذات، تقول الكاتبة من مؤلفها استفتاحا:" إن أمهاتكم، كنّ يحاربن العدو نفسه، هذا الذي تحاربونه اليوم. هذا الذي تماطلونه اليوم، والذي يتلاعب بحرياتكم، وطبيعة حياتكم. وهؤلاء لم يعودوا يفرقون في مقاصدهم، من مسائل الجنس ومتطلباته، بل ذهبوا تهورا لأكثر من هذا، حيث وصلوا احتيالا إلى مسألة العرق البشري، من أسود، وأبيض، وأحمر، وأسمر. وهكذا فإنكن تحبسن في أعماقكن، ما حبست أمهاتكن، في أعماقهن، من هذه الثقافات الرجولية الأبوية." ف"فرجينيا وولف" مثلها، مثل "أنتيڭون" التي أرادت أن تطالب بقانون طبيعة الحقوق، قد لاقت في طريقها من أمثال "كرييون"، من أعدموها وسوروها، ونصبوا لها القوانين، احتيالا عليها، من أجل تخليد سيادتهم الأبيسية، أو الأبوية إن أحببت. إن الأهداف والوسائل، كما النوايا، تظل اقتصادية، لأن الرجال كملاك للعالم بأسره، من أوليات أهدافهم، أن تظل الأشياء وتبقى، الحجارة كما الحيوانات، كما العبيد، كما الأطفال والنساء، كما هي كلها الأشياء، كما هي عليه." فهي في هذه السنة من صعود النازية، أي في سنة 1938، قد استطاعت بأن تدرك بحدسها الأنثوي ذاك الصخب الرهيب، صخب تصاعد الديكتاتوريات العالمية. لذا استهدفت مقارنة استعباد المرأة، بتألق الخطابات النازية الرجولية. إلا أن الظروف السياسية، في بريطانيا آنذاك، قد لجأت إلى خنق صوت الكاتبة، إذ صادرت كتابها "ثلاثة جنيهات"، واتهمتها بكونها، قد كتبت كتابها هذا، تحت سطوة الغضب. ولكن، إذا نحن تأملنا في عباراتها الصريحة، لأدركنا توا، بأن المسألة، أو بالأحرى، هذا الصوت الأنثوي الجديد، المصوت في البرية، هذا الذي يصارحنا قائلا:" إن ما يسميه الرجال سيادة، هو في الواقع استغلال. لأن الهدف كما الوسائل، تظل اقتصادية. لأن الرجال، هؤلاء الملاك للعالم، في نيتهم العميقة، أن لا يظلوا سادة هذا الملك، أو هذه الملكية أبدا". لكن أصوات نسائية جديدة، قد لبث نداء "فرجينيا"، فبدأت الأصوات النّسائية، بالرغم من الحظر البوليسي، أو الأبوي - بتعبير فرجينيا - إن أحببت، تتصاعد وتحتج من هنا وهناك، لأنه قد كان طلبا تاريخيا، وطلبا إنسانيا من قبل أن يكون نسائيا. ونقتبس بهذا الخصوص، مقطعا قد ورد في روايتها "أورلاندو" حيث تقول:" أورلاندو، رجل أو امرأة، كلاهما حسب العصور، قد تحول إلى امرأة، أي إلى محاكمة ذاك الشيء في حلة امرأة". ولكننا بالعودة إلى كتابها هذا "ثلاثة جنيهات" نقف على لحظات تعبيرية حادة، ونقف على شخصية "فرجينية"، لها ما تقول، ولها هذا الصوت الأنثوي الخاص بها ، الذي يتمثل في شخصيتها الأدبية، بكونها كامرأة. امرأة، تريد أن تحقق وجودها، بل نضالها الحقوقي، في أن تكون، أمام محكمة الرجال، كمخلوق له نفس الحقوق، نفس الواجبات، ونفس الظنون. ولهذا جاءت صرختها من الأعماق قائلة:" ها هم، هؤلاء الذين يمشون الآن، هؤلاء الذين لهم الحرية المطلقة في الذهاب والإياب، والتربع على هذه الكراسي العالمة، ليعلموا، وليتاجروا، وليتقاولوا، وليستغنوا أخيرا، على حساب الأطفال والنساء والعبيد". ولنذكر بأن هذه الفترة التاريخية في أوربا، ونقصد المرحلة الدائرة حول الثلاثينات، من القرن العشرين، قد كانت جد عصية، وجد صعبة، بما يتعلق بالأحوال الشخصية، والمدنية للمرأة. فباستثناء انجلترا، التي كانت قد منحت المرأة حق التصويت، فإن باقي الدول الأوربية، بما فيها فرنسا، بثورتها الحقوقية، لم تكن قد وصلت إلى هذه الدرجة من المساواة، أو منحت النساء هذا الحق. وواعية بهذا الواقع المتخبط، وبواقع صناعي حديث، يبحث له عن سبل جديدة، وقفت الكاتبة "فرجينيا"، وقفة امرأة تصيح من الأعماق، منددة بما لها من حقوق إنسانية، في هذا العالم الرجولي. ونسوق بهذه المناسبة، هذه الملاحظة الرائعة، من كتابها " أورلاندو" :" الحب قال الشاعر، هو كل وجود النساء". إلا، أن وتتابع الكاتبة قائلة:" ليس الحب، كما يحدده الرومانسيين الرجال، والذي يعني في مخاطبته للمرأة .. انزعي جبتك .. ! ". لا هذا ليس بحب. ونكون بهذه العبارة الصريحة، قد وصلنا بهذه القراءة المبسطة إلى منتهاها. إننا لم نقصد، تقديم "فرجينيا"، في حلة تجارية، بل إحدى مراياها الأدبية، تاركين لإخواننا العاملين في هذا الميدان الأدبي، تكملة الموضوع.