ماذا لو انطلقنا من بديهية أن الكتابة الإبداعية هي تصريف جمالي لوعي شقي يروم فضح الواقع، انتهاك زواياه المظلمة والتمرد على سلطته القهرية التي رسختها الأنماط المتخلفة البارعة في الإنتاج العشائري للقوى الطبقية والحاذقة في تكريس قيم الثبات والجمود! وماذا لو سلمنا أن الكتابة الإبداعية بناء متفرد يتميز بغموضه الفني الموحي، وبتكثيفه وخياله الخلاق، وأنها أي الكتابة توريط مقصود يهدف الكاتب من خلاله إلى دفع المتلقي إلى الانخراط في إنتاج المعنى وتوليده بما يسمح بإعادة تشكيل فهمه وذائقته الإبداعية وبالتالي سعيه لاكتشاف تاريخ وعيه الزائف وامتلاك ذاته والعالم. وتأسيسا على ذلك فالكتابة الإبداعية هي تعبير قوامه اللغة عن رؤى العالم وفوضاه، وعن دواخل الذات وأسئلتها الأنطولوجية. وهي أيضا الكتابة سلاح ثوري فعال ومؤثر كما يذهب جيل دولوز لا يمر بالضرورة عبر المناضلين.فالأمر لا يتعلق بتقليد رطانات الثوريين ولا محاكاة أصوات المقموعين، بل تلزمنا صيرورة هامشية قادرة على ابتكار قوى وأسلحة جديدة(1) صيرورة هامشية لابد لكي تكون صوت ذاتها لابد أن تستشعر وتدرك المسافة بين الوعي القائم أو بعبارة أخرى الوعي المستقيل من جهة بما يمثله ويكرسه من جمود وسلبية و انتظارية ومن جهة أخرى الوعي الممكن الذي لا يقف عند الخطوط الحمراء بل يتخطاها ليصبح بؤرة لتشريح قيم المجتمع المتخلفة ولكشف القناع الذي يخفي الحقيقة ويطمسها، وأيضا لانتهاك وخلخلة الثابت والمقدس. وفي هذا السياق ما أثار وتجليات هذا الوعي في المجموعة القصصية " القاغيش" التي صدرت مؤخرا عن دار سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة للقاص المغربي محمد البلبال بوغنيم ! وما هي حدود هذا الوعي في ترسيخ كتابة إبداعية راقية! بداية وكتأطير نظري ومعرفي لمقولة الوعي (CONSCIENCE) لابد من التساؤل حول ماهية الوعي من جهة أولى وعن خصائصه ومميزاته من ناحية ثانية. وبعيدا عن الجدل الابستيمي الذي أثارته كل من نظرة المثاليين وعلى رأسهم هيجل ونظرة الماديين وعلى رأسهم كارل ماركس وغيرهم من المفكرين والفلاسفة حول مقولة الوعي فالوعي شأنه شأن باقي المفاهيم كالعقل، النفس والحقيقة مفهوم إشكالي ومنفلت ولكن هذا لا يمنعنا من الإحاطة قليلا بهذا المفهوم فنقول بأن الوعي هو إدراك عقلي خالص للعلاقة التي تربط الفرد بذاته ، بواقعه المادي، التاريخي، الاجتماعي والإنساني بالشكل الذي يسمح للفرد فهم كينونته وموقعه داخل الأنساق الثقافية والسياقات الاجتماعية والطبقية، و يقوي من قدراته الذاتية على بناء مواقفه الشخصية بحرية،كما يعمق معرفته بالواقع وبقدراته اللامتناهية على ممارسة التفكير بعيدا عن أية وصاية مهما كان نوعها. هذا وإذا كانت بنية الوعي ذو طبيعة منطقية وتحليلية وطبيعة بنية الكتابة الإبداعية ذو طبيعة تخييلية وإيحائية فكيف يمكن أن يتماهى الوعي والإبداع في صياغة عمل إبداعي يتصف بمعاييره الجمالية والفنية وقادر على أن يقحمنا في عالم النص المدهش و العجائبي!. ينطلق رولان بارث في إحدى كتاباته النقدية على أن النص المنكتب هو" نحن" في لحظة الكتابة(2) بما تعنيه "نحن" من حضور الذات سواء الفردية أو الجماعية باعتبارها جزءا يتكامل و الواقع الموضوعي في تشكيل ونحث ذاكرة النص وتأسيس مرجعية له، فالكاتب شئنا أم أبينا يمتح مادته من الواقع إلا أن لا يعني أنه أي الكاتب حسب جورج لوكاتش يقوم بنقل فوتوغرافي عن الواقع، وإنما يؤسس نظرته ورؤاه انطلاقا من واقعه ليترجمها إلى لغة تمتاز بشاعريتها وخصوبتها، وفي هذا السياق إذا ما قمنا بقراءة متفحصة للأضمومة القصصية"القاغيش" للقاص المغربي محمد البلبال بوغنيم سنجد حضورا مركزيا لهذه الذات الواعية في تجلياتها المختلفة ، وفي بوحها عن رؤاها، مكنوناتها ورهاناتها إزاء واقع قلق، سوداوي، ومأزوم بأسلوب مغلف بالسخرية والمفارقة. فمن الوعي بالتاريخ إلى الوعي بالذات مسألة هويتها وانفتاحها على الآخر، إلى الوعي بحدود المقدس، إلى الوعي بالواقع تتعدد مستويات الحكي والسرد لتصب في بناء شكل قصصي متكامل عنوانه أن الوعي في الكتابة وفي نفس الوقت الوعي بالكتابة هو الوعي الممكن والمأمول لتأكيد حضور الذات في العالم بشكل واقعي وفعلي. يتجسد الوعي التاريخي لدى القاص المغربي محمد البلبال بوغنيم في إمساكه باللحظة التاريخية البئيسة التي يمر بها الواقع العربي وحالة الانقسام والتجزئة التي يعيشها وما أفرزته من مصائب على واقع الأمة وعلى الأخص حالة احتلال العراق واستهدافه في خيراته وتاريخه من طرف الامبريالية الأمريكية وحلفائها. هذا التاريخ المجيد الممتد واللامتناهي في عطائه وفي إبداعه الحضاري هو ما تسعى الامبريالية منذ القديم وإلى الآن إلى تدميره وطمسه ففي نصه القصصي" البحث عن نهاية " يشخص القاص محمد البلبال بوغنيم بأسلوب تهكمي شخصية فوكوياما وهو سط الدمار وبين يديه مخطوطات متفحمة لهارون وجعفر والتي تحكي تاريخ وحضارة بغداد العروبي وهو يتساءل بسخرية هل بإمكان الحرب والدمار أن تمحي تاريخ الأمم! وهل بإمكان نظرية فوكوياما منظر النيوليبرالية الجديدة التي بشرت بنهاية التاريخ أن تمحو من الذاكرة تاريخ بغداد وتاريخ الأمة العربية، وكأنه يريد أن يقول لنا أن وعي الأمم بتاريخها وإيمانها بذاكرتها أقوى ممن يشعلون الحروب و أكبر من يسفكون دماء الشعوب. وأما عن الوعي بالذات كماهية وككينونة وعلاقتها بالنظرة إلى الأخر، تضعنا قصة" القاغيش" بمضمونها الهزلي في صلب الانفصام الحاد الذي تعرفه الشخصية العربي نتيجة لما تحياه من قمع وكبت ممنهجين، وإن حاول الاختفاء وراء الأخلاق وادعاء الفضيلة، ففي هذه القصة الفضيحة تبرز إلى الوجود وضعية الشباب المتدين إلى الواجهة لتعيد سؤال الجنس وعلاقته بالدين. وأيضا في قصته" المعقودة" فتتجلى بوضوح شخصية الشاب المتشدد والمتعصب لأفكاره الدينية انطلاقا من إيمان أعمى وساذج مبني على نظرة متعالية وحقيقة مطلقة لا تقبل الرأي الآخر الأمر الذي يولد في رأيه كل أشكال الغلو ويدفعه إلى تكفير المجتمع. وتأسيسا على هذا فإن إثارة القاص محمد البلبال بوغنيم لهذه القضايا هو إقرار صريح لما للوعي بالذات وبالأخر من أهمية في ترسيخ القيم الإنسانية الراقية وإشاعة روح المحبة والتعاون بين الجميع. و إذا انتقلنا إلى الوعي بالواقع نجد أن القاص بفضل احتكاكه بالواقع وبفضل رؤيته المتبصرة والدقيقة لما يجري ويحدث في الواقع من تحولات وهزات اجتماعية أفرزتها المخططات الاقتصادية الفاشلة فقد تمكن من التقاط تفاصيل هذه التحولات بحنكة كبيرة ففي قصتيه" عقربة البحر" و" قرعة أمريكا" يلخص بسرد مكثف وموحي وبوعي شقي واقع الشباب المغربي المتعلم وحلمه بالهجرة إلى الضفة الأخرى بعدما سدت أمامه جميع الأبواب. ففي قصته "عقربة البحر" تصبح فكرة الحريق اختيارا مقبولا ورهان حياة أو موت لبلوغ المراد وتحقيق الأمنيات إما الحياة بكرامتها وشرفها أو الموت بعنفه وقسوته. و أما في قصته " قرعة أمريكا" فيصبح الحلم تعويضا نفسانيا مطلوبا للتغلب على روتينية اليومي وغاية يتوق الجميع إلى العيش على انتظاره ربما يتحقق يوما ما فيتخلصوا من بؤسهم وفقرهم.. فبين الحريق إذا والحلم بضربة حظ يضيع الزمن المغربي ويستنزف الشباب وقته في انتظار المجهول الذي وصلت إليه البلاد نتيجة استشراء الفساد واستهتار المسؤولين بمسؤولياتهم ففي نصه"سقوط بغل" تتصاعد حدة الاحتجاج على المفسدين وتتأجج نبرة التنديد باللصوص والخونة الذين خانوا الأمانة واستغلوا مناصبهم ومسؤولياتهم ليزدادوا ثراء على حساب معاناة وبؤس الفقراء..احتجاج وتنديد عنوانه الدعاء ولا شيء غير الدعاء وكأن القاص يريد أن يقول بأن هذا هو حال الشعب المغلوب على أمره فعندما تتخلى النخب عن دورها في تنوير المجتمع وترتمي في أحضان السلطة، وعندما ينعدم الحراك الاجتماعي لا تبقى من وسيلة للاحتجاج على الوضع القائم غير الدعاء وهو العملة الرابحة التي يركبها الكثير من الضعفاء..وتأسيسا على هذه المفارقة يلمح القاص محمد البلبال بوغنيم على أن الوعي بالواقع هو بالضرورة الوعي بتغييره. هذا ولكي يتحقق التغيير المنشود لا بد من الإيمان بالنضال والتضحية كخيار وحيد وشرعي لانتزاع الحقوق ورد الاعتبار إلى الذات ، ففي نصه " اختفاء قسري" يضعنا القاص من خلال شخصية أبو نضال في فترة هي الأشد سوداوية في تاريخ المغرب، فترة سنوات الجمر والرصاص التي تعرضت فيها جميع القوى المجتمعية الحية لأبشع أشكال الاضطهاد والعنف الممنهج، والتي كان من نتائجها فقدان الثقة في قدرات الذات وفي اختيارات المجتمع ورهاناته، وكذلك وقوع شرخ عميق في الذاكرة المغربية، ورغم القيام بفتح صفحة جديدة للمصالحة مع الذات وصيانة الذاكرة الجماعية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فإن الطرق لازال طويلا لبناء دولة المواطنة الحقة. وختاما فتجربة القاص محمد البلبال بوغنيم الكتابة انطلاقا من الذاكرة وبوعي عميق بالواقع هي تجربة في عمقها عودة بالوعي إلى رهاناته التحريرية الأولى وإلى معاركه المقدسة لتخليص الإنسان من ربقة ضعفه وشرنقة هامشيته...