ضدا على النسيان والضياع، وترسيخا لثقافة الوفاء والاعتراف، بادر الباحث المغربي المتخصص في أدب الرحلة د. عبد الرحيم مؤدن إلى إخراج كتاب الراحل محمد باهي: (الرحلة البهية إلى باريس السرية)، ضمن منشورات دار التوحيدي بالرباط، 2010، في 88 صفحة. والعمل عبارة عن تركيب سردي من عشرة نصوص في جنس الرحلة المعروف بتعدد أنماطه وتجاربه وتلويناته السردية المتميزة، لكن المستقلة بنائيا عن كل الأجناس الوصفية والسردية، كما تشي بذلك العتبات العنوانية الحداثية: * في الأصل كان الطوفان. * باريس السردابية. * كيف يبلغ "السين" سن الرشد؟ * باريس السرية. * موتى بلا قبور. * جئتكم غاريا. * حزب الله الباريسي. * الموت على الطريقة الباريسية أو فضيحة الحياة الكبرى. * باريس مدينة الجن والملائكة. * سلالة الحكائين المشائين. ويبدو أن هذه العناوين التخييلية الجديدة على جنس الرحلة، تعكس تجربة أونطولوجية فريدة.. هي تجربة الارتحال في أحشاء باريس السردابية، والسفر المستمر في الزمان والمكان، والنبش الغائر في أعماق الذات والفضاء، والاحتفاء حتى الرمق الأخير بالنور والعتمة. ولعل هذا التحول، الذي شهِدته نصوص الكتاب، من المنحى الأفقي: (باريس المرئية) إلى المنحى العمودي (باريس السفلية أو السردابية غير المرئية) هو ما جعل الكتابة عن باريز تأخذ شكلا جديدا غير معهود. وجدير بالذكر أن الكاتب والصحفي الراحل محمد باهي جواب آفاق ومثقف موسوعي موريتاني المولد مغربي الجنسية، من رعيل الحركة الوطنية المغربية وجيش التحرير. أطلق على نفسه صفة "صعلوك المغرب العربي للقرن العشرين". رحل في صمت متوقفا عن ممارسة "فضيحة الحياة"، على حد تعبيرٍ أثير لديه، تاركا بين أيدينا ما يستحق القراءة والتأمل، بعد أن طال ارتحاله بين الثقافات والعواصم والمنارات، "وهو في رحلته يستحضر أكبر أنواع شوارع باريس، ولكنه في نفس الآن يستدعي شارع الرشيد أو السعدون بالعراق. يقرأ المعلقات السبع وهو في أعلى نقطة من برج إيفل، ويقرأ تعاليم فلاسفة الأنوار في وصايا عمر بن الخطاب"، كما جاء في تقديم د. عبد الرحيم مؤدن الذي يحبل بالكثير من الفوائد التنظيرية، لاسيما وأن المقدِّم قد خَبر هذا الحقل دراسةً ونقدا وتحقيقا وتأليفا.