ابتسامة... تعود صاحبنا إرسالها كل صباح على حارس العمارة. بسرعة يمتطي سيارته واضعا الحقيبة بجانبه، تسابقت أنامله نحو المقود يديره شمالا ويمينا تارة أخرى، الطريق مكتظة، حركة سير غير عادية، سيارات وشاحنات وحافلات وباعة متجولون يعبرون الطريق بعرباتهم المملوءة إما خضرا أو فواكه أو ما يشبه ذلك من السلع المنقولة إلى السوق في مثل هذا اليوم من الأسبوع، إشارة واحدة قادت صاحبنا للوقوف في انتظار إشارة أخرى تسمح له بالمرور، أرسل صاحبنا نظرة غير عادية في اتجاه مجموعة من الأولاد يقطعون الطريق مسرعين نحو الضفة الأخرى يلبسون جلابيب صوفية وقبعات متشابهة، كل واحد منهم يحمل لوحا خطت عليه بعض من الآيات الكريمة، عادت به ذاكرته إلى أيام الصبا التي قضاها في الكتاب، يتذكر النصوص في الصباح الباكر ويتذكر عصا الفقيه الطويلة وكل ما له علاقة بفترة الصبا ومغامراتها، لقد تعود في صباه الاتجاه مبكرا نحو الكتاب برفقة عصبة من جيرانه يحذوهم هدف واحد، كانوا كلما أقبلوا إلى الكتاب بجلابيبهم الصوفية التي يتوارثونها واحد تلو الآخر، أسرعوا إلى ألواحهم متوجهين نحو السقاية ليمسحوا ما تمت كتابته البارحة بالماء والصلصال، كانت هذه العملية أحب عملية لديهم لأنها كانت تشكل لهم المتنفس الوحيد، كانت تلك اللحظات التي يقضونها أمام السقاية عبارة عن استراحة صباحية، استراحة قبل الأوان، بعضهم يقوم بعمله بإخلاص وبعضهم يراوغ الفقيه في تلك اللحظات، يعتقد هؤلاء أن الفقيه لا يدري بحيلهم فقد نسوا أنه بدوره قد مر في مثل أحوالهم. لم يكن صاحبنا من هذه الجماعة، لأن رغبته في التعلم كانت أعمق، يقوم بواجبه بأسرع ما يمكن فقد كان هاجس الزمان يشكل له نقطة سوداء يرغب في التغلب عليها، وبعد عملية غسل الألواح ينتظر كل صبي من هؤلاء الجماعة حتى يجف لوحه ليتسنى له الكتابة عليه، كانت عملية الكتابة من أصعب ما يمر منه صاحبنا بسبب خطه الرذيل والذي كان مصدر عقوبة يومية يتعرض لها مجموعة من الصبيان ذوي الخطوط الرذيلة، أثناء عملية الكتابة كانت المنافسة تشتد بين أصحاب الخطوط الرفيعة رغبة منهم في كسب رضا الفقيه، غير أنها لم تكن المنافسة الوحيدة هناك، فقد كانت هناك منافسة أكبر وأعظم منها، إنها المنافسة على حفظ ما في اللوح في أسرع وقت ممكن، يتذكر صاحبنا أنه لم يعتد المشاركة في أي منافسة من هذه المنافسات لأن منافسة كبرى كانت تلقي بظلالها عليه، التي تمكنه من العلم وبلوغ المبتغى والحلم المنشود، غير أن عين الفقيه ورضاه كانت تشمل صاحبنا دون التنافس مع زملائه، لقد شكل ذكائه الخارق ورغبته الملحة في التعلم وقوة استيعابه مصدر إعجاب الفقيه به، كان حديثه مع الطلبة الكبار يتناول مواضيع تعلو سنه بكثير، حديث حول الفقه والسنة والعقائد والعبادات ناهيك عن الآداب والجغرافيا وعلوم أخرى كانت تدرس هناك، مما جعل من صاحبنا عالما قبل الأوان. يتذكر صاحبنا قدومه إلى المنزل مساءا منهك القوى والتعب سيد حاله، كانت أمه تعده بمكافأة قيمة فور إتمامه لحفظ القرآن الكريم، وما أشد فرحة الأم بعد سنتين من الكتاب حفظ خلالها صاحبنا كتاب الله العظيم، الآن سيتمكن والده من السير في طريق مضاءة. قنديل ينير طريقه من الآن فصاعدا، فعلم ابنه سيرفع رأسه داخل القرية وسيضمن للأم ما تتباهى به مع قريناتها من النساء وسيفتح للصبي طريق الهجرة نحو المدينة لاستكمال تعليمه. والآن بعد ما قضى طفولته بين المنزل والكتاب باستثناء بعض الحالات التي يكون فيها في موضع شرود، ها هو قد تحول إلى رجل أعمال تطغى على لغته لهجة المال والبورصات، يقف وقفة تأملية في الماضي ليقارن بين ما مضى وولى وبين ما هو عليه حاليا، أي الموضعين أفضل، هل ما سلف وعشته أو ما أعيشه الآن؟ هل اللوح المحفوظ والصلصال والسقاية أم ربطة العنق ودفتر الشيكات؟ أسئلة بلا إجابة تضعه في معادلة يعجز عن فك مجاهلها، ربما يكون الماضي أحسن، أو ربما يكون الموضع الحالي أحسن، يستمر في التساؤل والمقارنة إلى أن يشتعل الضوء الأخضر ليوقظه من الغوص في الذاكرة والماضي ويجيبه عن السؤال المحير بأن لا يجعل من الماضي شبحا يقيده وأن يقبل صيرورة الحياة وتماشي الدهر. يتحرك صاحبنا بسيارته مستغربا مما أعادته إليه ذاكرته من أيام الصبا واللوح المحفوظ.