صدر للشاعر والباحث حسن الوزاني كتاب جديد تحت عنوان "معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين : دراسة ببليومترية وتحقيق"، ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وذلك في جزأين، في 800 صفحة. وقد خص الوزاني الجزء الأول لدراسة معجم ابن زيدان، من خلال توظيف المقاربة الببليومترية القائمة على اعتماد وسيلة الإحصاء كأساس لتحليل بنية الإنتاج. ومكَّنَ توظيفُ هذه المقاربة من حصر عدد من خصوصيات الإنتاج، سواء المرتبطة منها بحجمه، أو بتوزعه على مختلف مجالاته، أو بالمسؤولية العلمية، أو بالوضع العلمي لمنتجيه، أو بمستويات إسهام الطباعة، وأساسا الحجرية منها، على مستوى تداوله. كما منحَ هذا التوظيف إمكانَ تَمَثلِ جانب من الترابطات بين هذه الخصوصيات وبين خصوصيات التأليف العامة وسياقاتها السوسيوثقافية. وهمَّ الجزء الثاني من الكتاب تحقيق معجم عبد الرحمان ابن زيدان وضبط وإضاءة معطياته البيوبليوغرافية التي تغطي جانبا هاما من حركية التأليف بالمغرب، في مختلف المجالات الدينية والأدبية واللغوية والتاريخية والطبية وغيرها، وذلك خلال مرحلة تصل إلى سبعة قرون، ممتدة من القرن الخامس عشر الميلادي إلى العقد الرابع من القرن العشرين الميلادي. ويُمْكنُ تمثلُ جانبٍ من نتائج هذه الدراسة من خلال أربعة مؤشرات مركزية : 1- يتجلى المؤشر الأولُ في طبيعةِ توزع بنية الإنتاج، الذي يحصره معجم ابن زيدان، بناء على مجالاته. وتعكسُ هذه البنية تعددَ مجالات إنتاج المؤلفين، الذين بلغ عددهم 385 مؤلف. وهي تنتظم على مستوى مجالات علوم الدين وعلوم اللغة والبلاغة والأدب والتاريخ والحساب والهندسة والفلك والطب وغيرها. كما تترجمُ هذه البنيةُ التباينات الخاصة بين مجمل هذه المجالات، وأيضا التفاوتات بين حقول المجال الواحد. واحتفظتْ بنيةُ التأليف، في هذا الإطار، بخصوصية الحضور الكبير للإنتاج الديني، حيث بلغ عددُ عناوينه 1107 عنوان، شغلت أكثرَ من نصف الإنتاج العام الذي يحصره ابن زيدان. واتسمتْ هذه العناوين بتوزعها على مختلف حقول المجال، سواء تعلق الأمر بالفقه وأصوله، أو علوم الحديث، أو علوم القرآن، أو السيرة النبوية، أو التصوف، أو علم التوحيد. ويتأسس هذا الحضور على عاملين أساسين. يهُمُّ العاملُ الأولُ طبيعةَ الإنتاج الديني، حيث يمكن التمييز، في إطاره، بين جانبين كبيرين. يرتبط أولهما بمجالات تستمد قوتَها، سواء من قدسية القرآن، أو من مكانة الرسول، أو من طبيعة قضايا علم التوحيد. بينما يرتبطُ ثانيهما بمجالات الحياة اليومية والواقع الاجتماعي وبقضايا القضاء. ويهمُّ ذلك، على سبيل المثال، مجالات الفقه، ومنها الفتاوى والنوازل وفقه العبادات والفرائض وفقه الكسب والمعاش وفقه الزكاة. ويُشكل العاملُ الثاني امتدادا للبنية الثقافية العامة، التي يُعتبرُ المجال الديني نواتهَا الأساس. وهي بنية تجلت مظاهرُها من خلال طبيعة التأليف، ومجالات التداول، بما فيها حلقات التدريس، سواء بالقرويين أو بغيرها، والمجالس العلمية. 2- يَخُصُّ المؤشرُ الثاني توزعَ الإنتاج من حيث طبيعة المسؤولية العلمية. ويتسم مجملُ الإنتاج، في هذا الإطار، بحضور كبير للمصنفات الواصفة، حيث بلغ عددُها 859 مصنف، تشغل 50،17 % من مجمل الإنتاج العام، وهي تتوزع على الشروح والحواشي والاختصارات والختمات والتعاليق والتتميمات. ويحتفظُ حضورُ هذه المصنفات الواصفة بثلاث علامات أساسية. ترتبطُ الأولى بوجود نصوص مركزية على مستوى المتن الموصوف، شَكَّل تناولُها، سواء في إطار الشروح أو الحواشي أو الاختصارات أو التعاليق، تقليدا يبدو أحيانا ثابتا داخل مسارات التأليف في المغرب. ونجد في هذا الإطار، على سبيل المثال، أن أكثر من نصف الإنتاج في مجال الأمداح النبوية وشروحِها هو حواش أو شروحٌ هَمَّتْ ثلاثةَ متون معروفة، وهي "الهمزية في مدح خير البرية" والبردة لمحمد بن سعيد البوصيري، و"دلائل الخيرات" لمحمد بن سليمان الجزولي. كما تندرج في نفس السياق، على سبيل المثال، نصوصٌ أخرى، من بينها صحيحُ البخاري وصحيحُ مسلم في علم الحديث، وشمائل الترمذي والشفا للقاضي عياض في مجال السيرة، وعقيدتا محمد بن يوسف السنوسي، الصغرى والكبرى، ورسالةُ ابن أبي زيد القيرواني في مجال علم التوحيد، والأَجُرُّوميَّة وألفيةُ ابن مالك و"تسهيلُ الفوائد وتكميل المقاصد" والكافيةُ، له أيضا، في علم اللغة، و"تلخيصُ المفتاح" للقزويني ومختصرُه المعروف ب"مختصر السعد" للتفتازاني ونظمُ الاستعارات للطيب ابن كيران في البلاغة، و"السلمُ المرونق" للأخضري ومختصرُ السنوسي في المنطق. وتكمنُ العلامةُ الثانية في هيمنة النصوص المشرقية على مستوى المتن الموصوف، حيث كانت موضوعا لما يقارب 444 مصنف واصف، بينما خُصت المؤلفات المغربية ب 389 مصنف واصف. وتوزعت البقيةُ، من جهة، على شروح وحواش على شروح أخرى مغربية، تتناول بدورها نصوصا مشرقية، ومن جهة أخرى، على مصنفات واصفة لمؤلفات تنتمي لبقية دول الغرب الإسلامي. ويعكسُ هذا التوزيع جانبا من مسارات بنية التأليف بالمغرب، والتي اتسمتْ بعضُ لحظاتها ومجالاتها بحضور واضح للشروح والحواشي وغيرها من المصنفات الواصفة. كما يترجم التوزيعُ جانبا من جغرافيا النصوص الموصوفة، التي كانت أعمال المشرق تشكل نواتَها المركزية خلال لحظات طويلة. وترتبطُ العلامةُ الثالثة بخصوصية الهامش الذي فتحه الإنتاجُ داخل حقول معينة ومعدودة على مستوى تجاوز ما كان يُفترض أنه ثابت على مستوى هذه البنية. ويشكل التأليفُ في مجال التاريخ نموذجا دالا، حيث بلغ عدد مؤلفاته 85 عنوانا، تشغل 85،71 % من مجمل العناوين التي يحصرها معجم ابن زيدان في المجال، في الوقت الذي انحصر فيه عدد المصنفات الواصفة في 13 عنوانا فقط. بينما تتسم مجمل هذه المصنفات بتناولها لنصوص مغربية، أو لأخرى تنتمي لبقية الغرب الإسلامي، مع غياب مطلق للنصوص المشرقية. وتترجمُ سيادةُ التأليف وطبيعةُ جغرافيا النصوص الموصوفة، على مستوى مجال كالتاريخ، طبيعةَ الترابط المفترَضِ بين المكونين وبين موضوع التأليف. وهو ترابط تفسرُه المجالات الأساسية التي شكلت نواةَ اشتغال مؤلفي المصنفات التاريخية، والتي تجلت في التأليف في مجال تاريخ المغرب، وذلك سواء في إطار التدوين لتراجم ومناقب الأعلام، أو أنسابِ الأُسَر والأشراف، أو تاريخِ الملوك، أو تاريخ المدن. كما يندرجُ في نفس السياق التأليفُ في مجال السيرة. وفي هذا الإطار، تجاوز الاهتمامُ بكتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي أبي الفضل عياض السبتي (ت. 544ه/1149م) حدودَ المغرب، حيث تحفل المكتبةُ الإسلامية بعدد المصنفات التي تناولته، والتي جاوزت، حسب حَصْرٍ للباحث محمد يسف، 46 مصنفا، ما بين شروح وحواش وتعاليق واختصارات، بالإضافة إلى عشرِ روايات مشهورة. وحمل الاهتمامُ المشرقي بكتاب كالشفا، بذلك، أكثر من دلالة على مستوى جغرافيا التأليف، حيث مَثل هذا الاهتمام تجاوزا لبنية ظلَّ المغاربةُ يشرحون، في إطارها، المشرق. 3- يخص المؤشرُ الثالث بنيةَ منتجي المصنفات التي يحصرها معجم ابن زيدان. وتحتفظ هذه البنية بعلامات ثلاثة أساسية. تخصُّ الأولى التباينَ بين المنتجين المفتَرَضين والمنتجين الفعليين. ويعكس الإنتاجُ في مجال كتابة الرحلة الحجازية ذلك بشكل دال. فمن ضمن مجمل المؤلفين الذين ترجم لهم ابن زيدان، قام 75 منهم برحلة، على الأقل، إلى الحج. بينما لم يتجاوز عددُ الذين دونوا رحلاتهم 20 مؤلٍّفا. ويَهُمُّ التباين نفسه مختلفَ المجالات الأخرى، بدرجات متفاوتة أحيانا. ويعكس ذلك جانبا من خصوصية التأليف بالمغرب، الذي لم يكن يشكل دائما انشغالا أساسيا ووحيدا للمؤلِّفين. وتكمنُ العلامةُ الثانية، التي تشكل امتدادا للمؤشر السابق، في انحصار معدل إنتاجية المؤلِّفين الذين ترجَم لهم ابن زيدان في 4،44 عنوانا لكل مؤلِّف، مع تمركز أغلب العناوين على مستوى مجموعة محدودة من المؤلفين. وقد بلغ، في هذا الإطار، عددُ مؤلَّفات ثلاثة مؤلِّفين فقط، وهم إبراهيم بن محمد بن عبد القادر التادلي وجعفر الكتاني وأحمد بن جعفر الكتاني، 195 عنوان، تشغل 11،39 % من مجمل الإنتاج الذي حصره معجم ابن زيدان، بينما انحصر إنتاج 112 مؤلِّف في عنوان واحد فقط لكل منهم. وينسجم ذلك مع ما يُعرف بقانون لوتْكا، القائم على تأكيد التناسب العكسي بين عدد المؤلفين وعدد أعمالهم، باعتبار أن عددا أقل من المؤلفين ينتج أكبر عدد من المؤلفات. وتهم العلامةُ الثالثة الوضعيةَ الفكرية للمؤلفين الذين شملهم معجم ابن زيدان. وتكشفُ الدراسة، في هذا الإطار، عن غياب تعالق مطلق بين هذه الوضعية وبين مجالات إنتاج المؤلفين. ويوضحُ مجالا التأليف في علمي الفلك والطب ذلك بشكل بَيِّن، إذ اتسما بحضور خاص للعلماء المشاركين والفقهاء. فقد بلغ عددُ عناوينهم في مجال علم الفَلَكِِ 37 عنوانا، شغلتْ 80،43 % من مجمل عناوين المجال، بينما انحصرت مصنفات الفلكيين والمؤقتين في 9 عناوين فقط. كما ضمَّت مجموعة مؤلفي المصنفات الطبية 10 علماء مشاركين، مقابل 3 أطباء ممارسين فقط. ويعكس هذا التباين جانبا من وضعية بنية المنتجين العامة، التي حَكَمَها، خلال مرحلة طويلة من تاريخ التأليف بالمغرب، حضورُ "العالم المشارك"، تعبيرا عن تمثل يلغي الحدود بين جوانب المعرفة. 4- يهمُّ المؤشرُ الرابعُ حدودَ إسهام الطباعة الحجرية على مستوى خلق حركية ثقافية مفترضَة. وقد بلغ عددُ المصنفات الصادرة عنها، والتي أورد عناوينها معجم ابن زيدان، 351 عنوان. وتكشف الدراسةُ عن طبيعة إنتاج هذه الطباعة، حيث شكلت المصنفات الدينية نواته الأساس، ب 109 عنوان. بينما لم يتجاوز عدد المصنفات الأدبية المطبوعة على الحجر 15 عنوانا، وبلغ عدد المصنفات التاريخية 13 عنوانا، في الوقت الذي لم يتجاوز فيه عددُ المصنفات الطبية 4 عناوين. وشكل، بذلك، إسهامُ هذه التكنولوجية امتدادا لبنية التأليف السائدة، والتي كان يمثل الاهتمامُ الديني مركزَها الأساس، فاتحا، في الآن نفسه، هامشا لتداول أعمال الحقول الأخرى، في أفق تحولات ستعرفها بنية التأليف والنشر مع تراكم شهدته عقود القرن العشرين. ويُقدمُ "معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين" لعبد الرحمان ابن زيدان بذلك صورة تحتفظ بكثير من نقط التقاطع مع بنية التأليف خلال المرحلة التي يغطيها. وهي بنيةٌ تطبعها علامات مضيئةٌ وأخرى باهتةٌ أحيانا، لكنها تحتفظ، في جميع الأحوال، بإجابات مفترَضةٍ عن كثير من الأسئلة التي يطرحها واقعُ الكتابة بالمغرب الراهن.