كانت العرب تحتفل حين يولد لها شاعر وكان الاغريق حين يولد لهم فيلسوف يصنعون له تمثالا ويضعونه في بهو العظماء ويريقون على قدميه الخمر ، هم هكذا دائما والى اليوم . ونحن على ما نحن عليه ، مع فارق نعرفه جيدا وهو ان ساحاتهم ما زالت الى اليوم تحفل بتلك التماثيل في حين ان ساحاتنا العامة اصبحت من حصة النفايات وتماثيل قادة الجند وانصاف الآلهة ومتاحفنا مقفلة بوجوه زائريها وروادها القلائل ، وبحسب المصادر المتوفرة فنحن نعرف نسبة لاترضي الطموح عن تاريخ العراق القديم ، نعرف ذلك من خلال الخطوط المتقاطعة والمسامير الكتابية التي تلتقي لتشكل زوايا منفرجة احيانا واخرى حادة في احايين متعددة ، يسمونها رُقَما طينية ونسميها مدونات ، هم كتبوا ايامهم وتعاويذهم .. وصنعوا تماثيلهم ونُصُبهم وآلهتهم .. لكن من ترى ذلك العملاق الذي اقترح اول خُطيط ليتصل بنا عبر تلك الظلمة الموحشة من الحقب والازمان .. ؟ بل ان السؤال يجلدني الى حد البحث عن العقل المبدع الذي صمم غابة كلكامش وقلقه الوجودي وشخصيته ومن تراه ذلك الجهبذ اللمّاح الذي عذبته آلة الموت الساحقة فمضى يتوسّل طريق الابداع للخلاص من ذلك المصير ورمى طابة عذاباته في مضمار النص ..؟ من المؤكد بأن لااحد يعرف ذلك ، لقد وضع على اسمه قناعا تاريخيا ومضى مكتفيا بنشوته اللحظوية المبدعة ، ربما لانه لم يكن يريد ان يصبح من منظومة الآلهة تلك السلالة الموهومة بالخلود لذا فقد اكتفى بلحظته تلك ومضى ليطعم عياله من ماعون الطبيعة ويرضي آلهتها الغاضبة ابدا من دون وازع ، لكنه على اية حال قد انجز كلكامش ذلك الذي تعرفه الخليقة وهو العقل المبدع والنحات الحاذق والمثّال الذي صمّم التماثيل والتي خشي منها ابراهيم ان تفسد فردوسه الارضي ، وتبقى ايقونة السؤال برّاقة ابدا .. من تراه صانع تلك التماثيل ..؟ ربما نتعرف عليه فهو يلبس اقنعة النص الذي نحاول هنا ان نهتك سره ودريئته ونتسلل الى نبضه العتيق والذي مازال الى اليوم ينبض .. ، العقل الذي نتحدث عنه هو ذاته الذي صمم اللاة العزى ومناة وهبل على شكل منحوتات مقدسة تحمل خصائص الحجر وتفوح منها رائحة الطين وعبق الفن الانساني النحتي وقدسية الروح التي ظنوا انها تسكن فيها والتي تحولت فيما بعد الى اصنام ، ومرة اخرى يهاجمنا السؤال ذاته ، من يعرف بالضبط من صمم تلك الفتنة ووضعها على رفوف الكعبة فصارت الذات الموّارة القلقة والهائمة في تلك البقاع التي فقدت عذريتها وقداستها الآفلة وتعدديتها الماكرة يوم بزغ فجر الرسالة وصارت الوحدانية تفرض خطابها الوليد .. اقول صارت تلك الذات المقهورة .. تقول لا للحجر لا لتلك التماثيل الصامتة فالمطلق ليس هنا في هذه الفيافي ولا في تلك المنحوتات الخرساء ، اسأل مرة اخرى لماذا نعرف جواد سليم والرحال ونداء كاظم ونحتفي بهم ..؟ لا اقول ليوناردودافنشي او عباقرة الفنون النحتية والتشكيل .. اجل جواد سليم .. في ملحمة الباب الشرقي تلك التي اختزلت سنابل البلاد ومناجل المتعبين ومطرقة كارل ماركس وقضبان السجون الظلامية ونضال المرأة اوليس هذا العقل العبقري هو نفسه سليل تلك الارومة التي انتجت تماثيلا ونصبا قبل الاف السنين والتي نسميها الان اصناما ..؟ وما الفرق بين تمثال السياب وبين كبير الآلهة الذي بقيت الفأس معلقة في عاتقه ..؟ هم كتبوا أولئك الكتَبَة .. هم نحتوا أولئك النحاتون .. وتلك نصوص ابداعية وعلينا ان نُخْضِع كل ذلك المحذوف والمغيب الى تمرين العقل وطاولة التشريح . مرة اخرى نتوسع بكيمياء الطروحات المجنونة التي ترفض اليقينيات والبداهات الخاملة الرديئة لنقول .. من دخل المتحف العراقي فهو بطران .. تصوروا هذه البناية المتعبة التي تحمل تاريخ العالم والتي تقع في قلب علاوي الحلة لم يدخلها من العراقيين غير واحد في المئة وتصوروا هذا العراق الغارق حتى اذنيه في التاريخ فيه متحف تاريخي معتمد واحد ويقال ان في مقاديشوا هناك ثلاثة متاحف على الاقل هاجمتها ميليشيا المحاكم الاسلامية , ورغم ذلك سأحاول الدخول الى ضريح المتحف العراقي لازيح اقنعة النص المتاخم لصحراء العرب .. سادخل فعلا الى مركز النص السلطوي الاول الذي جرجر الخليقة وقسّمها الى راع ورعية رغم خوفي من رجالات الشعبة الخامسة وغيرهم والعهدة على راوي ذلك العهد .. ثم ادخل الى اشكالية المنطقة الخضراء ( الراوي ما زال بكامل عافيته ) ، لكن من يضمن لي سلامتي لاعود مترنحا منتشيا بفعل العبق التاريخي الذي علق باكمامي وسترتي وسط الحشود الغاضبة التي وضعت اقنعة الزوال والتي تتخفّى في المزارع والبساتين المنتشرة على طول الطريق بين العاصمة واسكتدرية العراق ، علاوي الحلة هي الاخرى تستعرض اقنعتها الكهفية الناتئة ..... فتيات بريعان الصبا استبدلن بنطلونات الجينز بعباءات غرابية وحُجُبٍ ليلية فضفاضة واردية كابية .....محال بيع الكاسيت تحولت الى مطاعم صغيرة وبؤر لبيع البخور والمسبحات والسجادات الصغيرة والسواك .... باب المتحف الرئيسي هي الشئ الوحيد الذي بقي منبهرا امام اقنعة رجال الشرطة واشباح الجنود وبين وجوه التماثيل المكشوفة للمارة والغبار .... يقال انك ان دخلت جثة المتحف العراقي ستواجه منحوتات وتماثيل وملاحم كثيرة وكل هذا لايساوي غير معشار العشر مما تختزنه ارض هذي البلاد من كنوز التحف والفنون ... ستجد نسخة من مسلة حمو رابي ، ثور مجنح يطالعك بحياء لانه ظل للنسخة التي هربت من جحيمات الحروب واستوطنت ارضا غير ذي حرب ، ستجد اشياء على هذا النحو ، لكنك لن تجد اجانات لاسئلة من قبيل .. من ترى صمم كل ذلك ..؟ المتحف العراقي يدين بوجوده الى العراق القديم اولا وما تلا ذلك من ازمان وحتى ولادة السيد المسيح اما بعد ذلك التاريخ فهي قطرات شحيحة وزاهدة ومتاحفنا العربية تتحاشى تلك الازمان التي بقيت معتمة نظرا للتابوات والقداسات التي رافقتها ، لكنها على اية حال فهي ازمان وهي جزء متمم للنص الذي امامنا ونحن مصممون على ان نزيل ذلك البرقع الهلامي ، واذا كان تمثال كبير الآلهة لايحمل توقيع احد ما وكذلك تمثال بوذا والذي فجره شلة من العظاريط ، فأنها الان هي عبارة عن نصوص ومدونات مجسدة ومرئية وان كانت مخبؤة في بئر الذاكرة الجمعية للبشر وهي مشاريع للقراءة المنتجة والميتاقراءة الحقيقية في هذا العالم ومن حقنا نحن ان نقرأ ذلك الحقل الذي لاثبات له وان نتعرض لجميع تلك الطواطم والمعابد والاسرار في هذه الظلمة ذلك لان كل الذي حملته الينا دواب التاريخ على ظهورها من جلود ورقع وتماثيل ولقى لا تعدو ان تكون اشبه بطلسم ، لذا فهي محاولة لنزع تلك الاقنعة المتقرنة المعطوبة التي ما ان نحاول نزعها حتى تقشط ملامح الوجه الحقيقي للصورة وتتركها جمجمة مشوهة ، هي محاولة للاجابة على السؤال القائم ابدا ، من ترى هم صناع تلك الاقنعة ...؟ ونحسب انها مغامرة للكشف عن بعض عورات الماضي البعيد .