يقترب طلوع الفجر بتلابيبه السابحة في ملكوت الأحلام حيث السكون يخيّم بهدوء على بواطن روحه البائسة وظواهرها, شذرات متطايرة تهفو حول مخيلته بتؤدة لتستحضر حوادث جمة شهدها محيطه في الغابر من السنوات لتضع على طاولته عشرات الأسئلة التي باتت تقض مضجعه وتلقيه في دوامة البحث عن الحقيقة الغائبة المتعددة الوجوه بحسب الموقف والقضية والرؤية ( وطنيون غرباء , غرباء وطنيون , وطنيون مغتربون , وطنيون حاضرون في الأزمنة المختلفة ) , لربما أصبحت الوطنية مشاعا لكل من هب ودب , فالسرّاق يتعكزون بمواطنتهم لإخفاء معالم سرقاتهم المغمّسة بخبز الوطنية , ومحبو الكراسي والمناصب يتبجحون بالمواطنة لاستمالة الناخب وإيداع صوته في الصندوق الذهبي الذي صار مصباح علاء الدين لهؤلاء , والمحبون وطنيون من الدرجة الأولى للفوز بقلوب العذارى والنساء , فهل أصبحت الوطنية هي السلعة الرائجة في عصر التناقضات هذا ؟؟!! أم هي الكذبة البيضاء التي تعود لصاحبها بالنفع وتسبغ عليه ما لذ وطاب مما حلله الله لعباده ؟؟!! قيل قديما ( إن السلطة مفسدة والسلطة شهوة تعبث بالرؤوس والسلطة بلا رقابة تتحول إلى عصابة ) ونحن في بلادنا هذه لا نجد معالم الرقابة الصحيحة , ليست لها فسحة في عالمنا المليء بالعجائب والغرائب , فلا نحن ديمقراطيون كما كنا نريد أن نكون ' ولا مركزيون لنعاني من مستبد ونحلم بالخلاص منه , فالحال هنا قابل لكل شيء وفي أي وقت , بتنا لا نفرق بين السارق والوطني والفاسد فالكل هنا وطنيون لحين نفاذ وطنيتهم , والكل سارقون كما يشاع الى أن تثبث وطنيتهم , والمغتربون قابعون خلف آلاف الأميال يتجرعون الحنين الى الوطن ويأخذون حبة الأمل كمسكّن وقتي للخلاص من الأرق الذي يصيبهم حين يتذكرون حياتهم البائسة المليئة بالظلم والحرمان والأقنعة التي كانوا يرتدونها لتبعدهم عن براثن السلطة الفاسدة آنذاك , الكثيرون منهم كانوا يحلمون بواقع أفضل إلا أنهم أصيبوا بإحباط حين فوجئوا بعصابات القتل والذبح والتهجير والتشريد في زمن الديمقراطية , أرواح بريئة تزهق مقابل حفنة من الدنانير , بيوت عامرة بالمحبة والدفء تتهاوى في لحظة طيش وخبث وإجرام بسبب الجهل أو الاستبداد أو حب القتل لمجرد ممارسة القتل , لا عين تراقب ولا قانون يحكم رغم الآلاف المؤلفة من أفراد ألأجهزة الأمنية بأنواعها وأشكالها , حتى الحلم أصبح مجرّدا من سحره وجماله ونقائه في زمن العنف والخديعة , كلّ يتهم الآخر بالعمالة وينعته بالغريب لمجرد اختلاف فكري طبيعي بين هذا وذاك , العرق والطائفة والقومية أصبحت معضلات يصعب التخلص منها بسهولة , الوطن هو المكان الذي نعيش فيه بكرامة وعز وكبرياء فلا وطن بلا أمان ولا أمان بلا وطن , الوطن هو الجسد الذي يضم أعضاءه بدفء ولا وطن بجسد ممزق وأشلاء متناثرة في هزيع الليل وتحت شمس النهار , الوطن ليس كرسيا نجلس عليه لنمارس من خلاله عشق الذات ونهمّش الآخرين ونسلبهم كرامتهم وحقوقهم الإنسانية , الوطني هو من يجيد احتراف نكران الذات ويمتهن العطاء لكل من حوله وبمختلف الطرق , الوطني هو من يحترم الأديان والطوائف والقوميات ولا يتعامل مع الآخرين إلا بالمحبة والإنسانية التي كرمنا الله بها , الوطني الحق هو من يشعل شمعة لينير بيت جاره إذا كان مظلما , ويعلّم حرفا لمواطنه أن كان جاهلا , ويربت على كتف زميله أن كان حزينا , ويطعم فقيرا إن كان جائعا , المواطنة هي المعاملة الحسنة للآخرين وليس تهميشهم وإقصائهم وإلقاء التهم عليهم جزافا كما يفعل البعض من ( الوطنيين ) .