و قدم الصيف من الجنوب. قدم بالأوادم، من محبي التصيف، و التجوال الليلي و المُوّال اللاّ مُجدي و ابتلاع أطنان مُطَنّنَة من "البيتزا" و "الكالينتي"، و رمي الأزبال على درجات الدور المحاذية لهم، و على الأرصفة و الحدائق العمومية و الانسياب في مجرى مياه لا تساؤل تاريخي لها و لا قلق وجودي. قدم الصيف عندنا إلى ربوع الشمال الطنجاوي .. الأوروبي. قدم إلى حدود بحر الاحتمال، احتمال التصيف و العبور بالمناسبة إلى ديار بني آدم. قدم محملا بثقل العولمات الغذائية و النكاحية التحررية، الثقيلة " جُبّاتها المُقَصّرة " الخارجة أخلاقيا على قياس مدونتنا الشرعية. و بدوري نزلت يومها في اتجاه محطة القطار، و كان الليل الطنجاوي جميلا. و كانت السكينة عند موعدها بي، في اتجاه هذا الأفق الإفريقي الأرجواني، و كان الانتظار، و تأخر القطار، و بقي الانتظار .. الإنتظار .. الإنتظار الحضاري، الغائب عن كل محطات الحداثة إلا ما تعلق بالبطن و الفرج و العين البلهاء ! و انتظرت صديقي" الموشافي" القادم من الدارالبيضاء على مثن القطار الوطني السريع و الثقيل في الوقت نفسه، و ذلك حسب مزاج السكة الوطنية الوحيدة الاتجاه، و أحوال أمزجة الطقس العصبي، و موظفين أشباه عاملين و أشباه عاطلين. و القطار المفترض فيه أن يصل على الساعة الحادية عشرة ليلا، لم يأت بعد، إلا .. ! إلاّ .. ! و كان ما كان مما لست أذكره و ظُنّ خيرا و لا تسأل عن الخبر. و تأخر القطار، و وجدتني صدفة، بقرب مواطن ينتظر القطار نفسه. و حصل كما عادتنا في هذا البلد، أن كلمني و كلمته عن سبب تأخر القطار، و تجاوزنا الحديث إلى أشياء أخرى. و فجأة عاد مكلمي إلى موضوع " أوروبا " و نطق بها تلك الكلمة قائلا:" ما بقي لهم أولئك، إلا شهادة " لا إله إلاّ الله "، فكل أقوالهم كما أفعالهم، مطابقة للإيمان بعقيدتهم، و ما لدينا نحن سوى النفاق و التّلفاق، و الغش المستباح، و نكاح القريب و الغريب". و تفرس في وجهي و انفجر مقهقها، و حين خلته بأنه قد فارق صوابه، تماسك نفسه و عاد إلى متسائلا: - هل عندكم في باريس مدراء أبناك يتسولون؟ و أجبته غير فاهما قصده: - ماذا تعني بهذا؟ و نظر إلي، و سحب من جيبه علبة سجائر "مارلبورو" و عرض علي سيجارة، لكني رفضت بأدب، حينها أولع سيجارته و سحب ما فيها من نيكوتيل و قذف بحلقات دخانها في وجهي معتذرا، و قال لي: - أنا رجل فلاح و مزارع، بما معناه، ملاك لبضعة حقول و أراضي زراعية. و حصل لي، كما قد يحصل لأي أحد في أيام الأزمة هذه، أن توجهت إلى البنك المحلي من أجل قرض فلاحي. إلى هنا كانت الأمور عادية. و حين قابلت مدير البنك المسئول عن إجراءات القرض حصل التفاعل. نعم قال لي .. حصل التفاعل المغربي المنافق، و تابع كلامه: - استقبلني مدير البنك و سألني عن ممتلكاتي. و حين علم بأني ملاك لحقول متواضعة لزراعة الفواكه، بما فيها التفاح و الإجاص و البنان، استسألني و هو كله ذكاء و شجع و حب استلاب المال، و قد بدأ لعابه يسيل على إنسانه المزيف: - و الله إني كالحامل، بي شهوة غريبة لتذوق خيراتك ! و فهمت جشعه و فهمت نفسه الطماعة و فهمت إنسانه السّعاي، و بادرته قائلا: - غدا إن شاء الله ! و ابتلع أنفاسه الطمّاعة، و كاد يبكي من فرح النفاق، و إنسانه الخبيث و البليد، يفوح من حوله خبثا: - إذا عد عندي غدا لتسوية ملف الطلب " بإذن اللّ.....ه " و طلع الصباح عندنا مشرقا بعد ليلة قضيتها في انتظار السهل الممتنع. و كنت صبيحة اليوم التالي، أول من تسمر أمام باب مكتبه. و استقبلني بل قفة الفواكه التي كانت بيدي أولا، و من بعدها تفرس في وجهي قائلا في سره" أنت العبد و أنا السيد " و فهمت قصده و دخلت من وراءه أجرجر في روحي سلاسل الذل، و بمعنى آخر، ذل جمهور لا يغني و لا يسمن من جوع. و حين تواجدنا وجها لوجه في مكتبه، أمرني بالجلوس و خابر ما خابر مجانا، على حمّاله النقال كل معارفه و أقاربه. و حين شعر بأن نفسي قد بدأ يضيق به، بل و بنفسي، غيّر الخط و الأسلوب مستديرا في: - ملفك لا ينقصه سوى توقيع بسيط .. غير أنني في ضائقة مادية لا يعلمها إلا الله. أنظر .. ! و أخرج علبة سجائر فارغة من جيبه و عاد متابعا: - تصور نهاية الشهر و ليس في جيبي ثمن علبة سجائر .. ! و فهمت قصده، و استدركت حالة ملفي المكبل بالطلبات قائلا: - كم: و أجابني "مائتا درهم" و قد أصبح إنسانه المُديري أمامي في أقصى درجات البهدلة البشرية، و كدت أطير عليه بمخالبي المغربية القبلية، الساكنة في تربيتي، إلا أنني لم أفعل، لكوني مسكونا بكل الهزائم العربية، و مسكونا بإنساننا الذي لا قيمة له، لا في بلدانه العربية و لا في غيرها. و نهضت واقفا و أنا في أمس الحاجة و لو لدرهم لأقطع لسانه و انصرفت. و جئت عند زوجتي و أخبرتها. طافت زوجتي و طوفت ما شاء لها من الطواف بالحي و بالأحياء المجاورة، جامعة للمبلغ المطلوب من هنا و هناك، و قد فاجأها مجيء الليل الحامل للهموم و الأفكار و الطلاق و الغضب الفجائي. و عقبه صباح أمل مؤقت و من جديد، وجدتني أول من يطرق على باب مكتب مدير البنك. و يا للمفاجئة، حين استقبلني بالأحضان داعيا لي بالصحة و الجرأة و العافية المغربية. و ما كاد يبلع ريقه من بعد ما تناول الرشوة المقصودة حتى كانت كل الأوراق قد وقعت، و عدت من حيث أتيت بدين جديد و أنا غيري. أي عدت بخلاف ذاك الذي ذهب. عدت منحطا و قادرا على ارتكاب أكبر الجرائم اللاّ أخلاقية. إلا أنني عدت مهزوما نحو واقع اجتماعي مهزوم و نحو مخلوقات همها الوحيد أن تعبر هذا البحر الذي ترى: و أشار نحو المضيق بيده اليمنى و المحيط الأطلسي بيده اليسرى و قال: - إلى بلدان "البنو آدم .. "! و حين أوشك على نفث آخر أنفاسه، صفر القطار ثلاثة مرات متتالية، فتدارك نفسه قائلا لي: - لقد وصل الحمار و إياك ثم إياك ! أن تعود لهذا البلد المنحوس، اليوم أمر و غدا قبر و لسوف ترى ! و مْشي آسدي الله يبعدك من هاذ البشر، إنها ابنتي لقد و صلت. و بالفعل قدمت ابنته و قدم من ورائها صديقي " الموشافي " و تبادلنا القبلات الحارة و تبادلنا اللقاء و مضى كل إلى غايته، و في أعماق لا شعوري، ظلت تدور أسطوانة أم كلثوم : " أعطني حريتي أطلق يدي، إنني أعطيت ما استبقيت شيئا .." و قال لي صديقي: - ما أجملُ السماء نجومَها ! و أجبت مصححا: - نجومُها ! و جاء " الطاكسي " بعد لأي كما قال الشاعر. و قال لنا السائق: - إلى أين؟ و أجبته: - حومة المُصَلّى. و أقلعت السيارة في قلب الليل الممتلئ بالأوادم و مضى كل إلى غايته و اختفينا.