كان مجيء عبد الجبار السحيمي إلى مشهدنا الأدبي و الصحفي أوائل الستينيات من القرن الفارط، كمجيء نسمة ربيعية ريانة أنعشت هذا المشهد وأحيته، و ضخت في أوردته دماء جديدة وفتية، و أشرعت أفقه بحق على حداثة أصلية و جميلة في الكتابة. و لتجلية و تبيان أهمية و قيمة الدور الأدبي الذي أنجزه السحيمي، لا بد من وضعه و قراءته في السياق التاريخي الذي بزغ فيه اسمه و تفتقت موهبته، و هو سياق الستينيات، أو لنقل تحديدا، سياق أوائل الستينيات التي تلي مباشرة أواخر الخمسينيات. سياق تاريخي حاسم و لاغم، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الثقافي و الأدبي. سياق التحم فيه السؤال السياسي بالسؤال الثقافي و الإبداعي التحاما جديدا، منقحا و مزيدا، بحثا عن أفق جديد و ملائم للمغرب، أفق الحداثة السياسية و الثقافية. و في المجالين معا، السياسي و الثقافي، أبلى السحيمي وصال وجال دونما كلل أو ملل. و يبقى المجال الثقافي- الأدبي في تقديري، هو المجال الحيوي الأهم الذي نشط فيه السحيمي و آتى فيه أكله السائغ. وكانت جريدة (العلم) هي نقطة عبوره إلى القراء و المتلقين، و همزة وصله بالمشهد الأدبي و الصحفي. ومنذ المقالات و الخواطر الأولى التي خطتها براعة السحيمي فوق أعمدة (العلم)، بدأ الإسم يشد إليه الأنظار بقوة، و بدأ قراؤه و متابعوه يتكاثرون عددا. كان الإسم هنا، عبد الجبار السحيمي، يعني جاذبية خاصة و آسرة في الكتابة الصحفية، و مذاقا جديدا و فريدا في الكتابة، هو أقرب ما يكون إلى ذلك المذاق الشرقي الرفيع، و لنكن هنا صرحاء. فقد كانت الكتابة الصحفية المغربية في هذا الإبان، أوائل الستينيات، في بدايتها التحديثية الأولى. أعني في طور تكونها و تخلقها و بحثها عن ذاتها. و لم تكن تستند إلى تقاليد راسخة و قبلية يمكن أن تؤسس عليها. كانت الكتابة الصحفية، كما كانت الكتابة الإبداعية، عصاميتين و يتيمتين بامتياز. من هنا اتسمت الكتابة الصحفية المغربية الأولى، غداة الستينيات، ببعض مظاهر المخاض الأدبي، و تفاعلت فيها أنماط أساليب مختلفة، من إنشائية إلى سجعية إلى تقريرية إلى خطابية إلى وجدانية الخ. علما بأن هذه الكتابة الصحفية الستينية، كانت أرقى مستوى و أحدث ديباجة و أصفى عبارة من الكتابة الصحفية السابقة، في الخمسينيات و الأربعينيات. و لقد طلع علينا السحيمي بحق، و منذ هذه السنوات المبكرة من الستينيات، بأسلوب جديد في الكتابة، سهل وممتنع، ممتع و مفيد، سرعان ما أضحى شرعة و قدوة لدى الأجيال اللاحقة من الكتاب و الصحفيين. وعبر مختلف المنابر و الواجهات الصحفية و السياسية. لكن، من الصعب جدا أن يقع الحافر على الحافر. فالأسلوب هو الشخص ذاته، و من الصعب، إن لم نقل من المحال، أن تتماثل الأساليب و تتماثل الشخوص. و مهما يكن من أمر، فقد افتتح السحيمي أفقا جديدا للكتابة الصحفية و الأدبية منذ طلائع الستينيات، و اشترع ما يمكن أن ندعوه حساسية جديدة في الكتابة، متخففة و متحررة من دالة الكتابة التقليدية و آثارها، و نازعة عن قوسها الخاصة. و هذا صنيع، لو تدرون، كبير. لم يتخرج السحسمي من كلية للإعلام أو معهد عال للصحافة. بل تخرج من مدرسة الإبداع. جاء إلى الصحافة أو تسلل إليها من باب الإبداع. جاء من القصة القصيرة إلى الكتابة الصحفية، أو لنقل، إنه جاء إليهما سوية مسكونا بهاجس الإبداع، لا يفارقه لحظة، سواء أكتب قصة أم مقالة سياسية. و للتذكير، فالسحيمي يعد من الرعيل أو الجيل الثاني المؤسس للقصة القصيرة المغربية. و هو الجيل الذي قام بتحديث و تجنيس القصة القصيرة المغربية، و تخليصها من عوالق و آثار الولادة الأولى، و ربطها بإيقاع العصر و إشكاله و حداثته. و تعتبر مجموعته القصصية الرائدة (الممكن من المستحيل)، الصادرة في 1969، و المنشورة نصوصها على امتداد الستينيات، من أبرز و أجمل المجامع الٌقصصية الصادرة في هذا العقد الستيني. و هي، على كل، مجاميع لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة إلا قليلا. و قد كانت مجموعة (الممكن من المستحيل)، أكثر هذه المجامع نزوعا إلى التحديث و التجديد و إحساسا بهما. يتبدى هذا النزوع التحديثي أو الحداثي للوهلة الأولى، منذ عنوان المجموعة الدال المفارق لكل العناوين السابقة (الممكن من المستحيل). كما يتبدى من خلال لوحة غلاف المجموعة الصفراء التشكيلية المجهولة النسب. و يتبدى هذا النزوع بشكل خاص و أساس، من خلال لغة و بناء النصوص القصصية و تيماتها و متونها الناضجة من ايناء المرحلة، مرحلة الستينيات. و هي تيمات و متون تصور و تجلو الحيف الاجتماعي الذي بدأ ينخر الجسم المغربي، و الأدواء الوبيلة التي تعيث فيه. و قلم السحيمي منذور دوما لتنطس الأدواء و العلل الاجتماعية و السياسية و الثقافية، سواء أكتب قصة أم مقالة أم خاطرة. ولا نريد أن نغادر مجموعة (الممكن من المستحيل)، دون استحضار فقرة من التعليق الجميل الذي كتبه الأديب الكبير محمد الصباغ، على ظهر غلافها الأخير. يقول الصباغ : "قطعة فريدة هذا الفتى، في صمته، ونزواته، وتألقاته، ورفضه، هذا الذي يطرق بالكلمة الكبيرة- كل صباح- الأرتاج الصدئة، ثم يمضي في طريقه بسيطا، كقمحة، كغصن نعنع، ولا يلوي وراءه. ابن الهنيهة هو، إذا ما أحرقته، أحرقها. فالانفعال بعث فه و قيامة، شأن المهمين المرهفين الذين يحرقهم الحب الكبير في الساحة العمومية. تلك همومه، و من هذه الهموم الإنسانية، جاء عمق صدقه ينبئ عن أصالة ريشة تتحرك، تتحرك، فتهز كل من حولها، و كدت أقول تزلزل. أصيل و خبير من خبراء الكلمة، وبالأحرى الكلمة القاصلة".1 أجل، لقد صدق الصباغ و هو الخبير بالكلمة، إذ ينعت السحيمي بأنه أصيل و خبير من خبراء الكلمة. سواء أكتب قصة أم كتب سياسة، في كلا المجالين، القصصي و السياسي، ثمة حضور شفاف للإبداع. ثمة بهجة الكتابة، بالمعنى الشعري والجمالي العميق لكلمة (بهجة)، و بالمعنى البارتي، العميق لكلمة (كتابة). وهذه البهجة الكتابية أو الكتابة البهجة، ليست مقصودة لذاتها أو مرسلة على عواهنها، بل هي مشغوفة و مؤطرة برؤية سياسية نقدية ثقابة و جريئة، لا تهادن أو تساوم، حتى ضمن الحزب السياسي الذي يتحرك السحيمي في حماه، حزب الاستقلال. وكثيرا ما أثارت كتابات السحيمي في هذا الصدد، نقعا و غبارا، و كثيرا ما جرت عليه توابع و زوابع. و هو بذلك، يقدم مثالا ل"المثقف العضوي" و الحزبي الملتزم، بالدلالة الغراميشية لهذا المصطلح. لكن السحيمي يبقى دوما، و في صميم الإبداع، كما ألمحت. يبقى مبدعا و فنانا، حتى و هو غارق في حمأة السياسة و خائض في غمار هموم الحياة اليومية للمواطنين. و قد نختلف إلى هذا الحد أو ذاك، مع أطروحات و أفكار السحيمي السياسية، و في الاختلاف رحمة للعالمين، لكننا لا نملك إلا أن نتجاوب و نتعاطف مع كتابته و نبتهج بها. وذلك هو ربحنا الحقيقي من السحيمي. و كتابته الصحفية و السياسية لذلك، لا ترتهن لموضوعاتها الآنية و همومها الظرفية و السياسية. أي لا ترتهن ل"المناسبة" العابرة، بل ترتهن أساسا لجماليتها و شعريتها الخاصة، في اقتناص اللفظة و سبك العبارة و توليد اللمحة و الصورة، و الكناية و الاستعارة، بمهارة و ذكاء. هذه الجمالية الأسلوبية هي التي تميز كتابة السحيمي، و هي التي تمنحها قيمتها و أهميتها، أكثر من الموضوعات و الهموم التي تقاربها. علما بأن كتابات السحيمي منذ الستينيات إلى الآن، تشكل أرشيفا تاريخيا حيا لمغرب المنتصف الثاني من القرن العشرين. و حبذا لو جمعت هذه الكتابات و طبعت، تنويرا للأجيال الجديدة و تغذية لذاكرتها، على غرار كتابه الصغير و الجميل (بخط اليد). السحيمي إذن، مبدع و فنان أنى نقل قلمه. ولا يمكن لهذا القلم إلا أن يكون مبدعا و سنا نافذة و شاحذة، سواء أغاص في حمأة السياسة، أم في بحران الهموم اليومية و مشاغل الوقت. لنقرأ هذه الفقرات الشذرات من كتابات السحيمي، كمسك ختام لهذه السطور، و هي مستقاة من كتابه الرشيق (بخط اليد). في أولى مقالات هذا الكتاب (إذا عاد المساء ولم أعد)، يكتب السحيمي عن القمع المنهجي الذي كان يقتنص مناضلي و مثقفي المغرب في سنوات الجمر، سنوات الستين و السبعين: ".. وإذا جاء المساء، وأنا بعد لم أطرق باب البيت، لا تظني أنني تهت عن الطريق، فأنا أعرفه مغمض العينين، يقودني إليه التعب و الفرح و الشوق. ابحثي عني في مكان آخر. وإذا عاد المساء و لم أعد. لا تبحثي عني في قسم المستعجلات، ولا تزعجي أحدا من الأصدقاء و الأهل، ولا تفكري في رفع دعوى ضد مجهول. إذا عاد المساء و لم أعد، لا تصدقي إذا قالوا لك: أنني انتحرت، فأنت تعرفين أنني أحب الحياة.. أحبها كثيرا و عميقا.2 وفي مقالة بعنوان (مرض البراءة)، يكتب عن حالة (الاستثناء) سيئة الذكر، التي عانى منها المغرب الأمرين: "..سوف يأتي يوم، يحاسب فيه الناس على الصمت. سوف يأتي يوم، يحاسب فيه الناس على أن أرض الله واسعة فلم يهاجروا.. سوف يأتي يوم، تفزع فيه المرضعة عمن أرضعت. علامة ذلك اليوم، انتشار مرض البراءة، مرض الصمت و الصمم و إغلاق العينين. وسيدنا بشر الحافي، ذلك الصوفي المختفي في الرمضاء، حين أفزعته المدينة في تقاتلها على المصلحة الشخصية، وانتهاز الفرص و الغيبوبة، أطلق ساقية الريح.. وما زال يجري. كان ذلك، في حالة ملتبسة بين الطارئ و المعتاد، الاستثناء و القاعدة. ورحم الله إنسانا قال: اللهم إن هذا منكر. سجله الطبري في تاريخه".3 وفي مقالة بعنوان (مخلوقات وديعة)، يكتب عن تحول المثقفين و انقلابهم الإيديولوجي: "أفلاطون لم يكن لديه مسدس ليشهره على " الثقافة"، لكنه حين أقام دنيا سماها "فاضلة"،طرد عنها الشعراء، ربما لأنهم مخلوقات قادرة على الحلم، لا يعجبهم عجب.. كان يا مكان.. لا الرجل هنا و لا أفلاطون.. لا المسدس و لا الثقافة. يغريني دائما أن أفكر، في هذا التحول الذي يلف حياة الناس المشاهير، و الذي يحدث بطيئا، أو بصورة انقلابية.. (...) كان يا مكان.. لا رجل المسدس هنا، ولا دنيا أفلاطون الفاضلة. ولا الثقافة.. ولكنه لو كان حيا، رجل المسدس ذاك، لأصابه الذهول مما حدث للثقافة و ما حدث للمثقفين، ولربما فكر أن يدعوهم إلى سهرة في بيته، احتفاء بكل هذا التحول الذي جعل هؤلاء المشاغبين مخلوقات وديعة." الخ.. الخ.. و لسائل أن يسأل: هل هذا أدب أم سياسة ؟ إنه كلاهما معا. و إنهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة الإبداع. هذا هو السحيمي الكاتب. وهذه كتاباته، تشف عنه أدبيا، كما تشف عنه سياسيا وصحفيا، ورائيا نافذ الرؤية. تحية إجلال لروحه و إبداعه.