في ستينيات و سبعينيات القرن الفارط، كان ثمة فرسان ثلاثة يكتبون القصة القصيرة المغربية بعشق و جدة و اقتدار و يتنافسون في حلبتها بداب و اصرار و همم :محمد زفزاف و ادريس الخوري و محمد شكري لعب هؤلاء الثلاثة دورا كبيرا في تجنيس القصة القصيرة المغربية و تحديثها و ضخ دماء جديدة في اوصالها ، كانت المجاميع القصصية الاولى لهؤلاء اضافة نوعية متميزة للقصة المغربية , (حزن في الرأس و في القلب) لإدريس الخوري و (بيوت واطئة )لمحمد زفزاف ، و (مجنون الورد) لمحمد شكري ، كل مجموعة تعزف على وترها الخاص .و حين صدرت (الخبز الحافي ) لشكري ،و لقيت ذلك الترحاب الادبي الواسع من كل حدب و صوب ، صار يُنظر الى شكري كنجم عالمي و اسم عابر للقارات ، وصارت تتردد في الكواليس و المجالس الادبية ، ثلاث صفات و نعوت لهؤلاء الفرسان الثلاثة: محمد زفزاف / الكاتب الكبير ، محمد شكري / الكاتب العالمي ، ادريس الخوري /الكاتب المغربي، و هي صفات و نعوت لا تخلو من وجاهة و مصداقية . فالخوري كاتب مغربي حتى النخاع و زفزاف كاتب كبير بموهبته الابداعية و شكري كاتب عالمي بالترجمات الجمة التي احتفت بإبداعه. و ما اعتقد ان كاتبا مغربيا يكتب بالعربية حظي بمثل هذا الاحتفاء العالمي الذي حظي به محمد شكري في نهايات القرن العشرين. فلنقترب قليلا في هذه الورقة ، من بعض عوامل و اسباب هذه العالمية الادبية. و هي عوامل و اسباب يمكن اختزالها و اجمالها في الصدق مع الذات و الصدق مع الاخرين و الصدق مع الكتابة. من اقصى بقعة في الريف ، بني شيكر ، ومن هوامش طنجة وتطوان و وهران ، حلق محمد شكري بجناح الابداع الى اقاصي العالم الادبي . من اقصى شمال المغرب الى اقصى عواصم الغرب ،تلك هي الرحلة النادرة و الباهرة التي قطعها محمد شكري ،بعصامية نادرة و باهرة قل نظيرها ، تلك هي مغامرته ، الابداعية و الاستثنائية . ومحمد شكري لذلك ، اسم مجمول بطينة و حمأة الحياة و عرقها و معاناتها، قبل ان يلتمع بالف الشهرة و يحاط بهالتها كألمع اديب مغربي و عربي في نهايات القرن العشرين ، سارت بذكره الاعارب و الاعاجم و اخترقت نصوصه عددا عديدا من لغات العالم و ألسنه ، حتى ليمكن اعتباره في هذا الصدد ،سفيرا ادبيا فوق العادة لبلده المغرب ،بخاصة، ولوطنه العربي بعامة ، علما ان وطنه المغرب قد مارس المنع و القمع على ادبه لسنوات عدة ، قبل ان يكفر عن فعلته و يطلق سراحه . و شمعة الابداع ، كشمعة الحقيقة ، صامدة ابدا في وجه الرياح العاتيات. و بقدر ما عق الوطن ابنه ، احتفى العالم بهذا الابن. اذا كان معيار قيمة اي مبدع ، وقوام شهرته بتجليات اساسا في مدى "مقروئته '' و تداول اعماله بين الناس في اكثر من قطر و صقع ،فان محمد شكري يحقق في هذا الجمال رقما قياسيا و سبقا استثنائيا ،و يعد ضمن قلة قليلة من الأدباء العرب تخطى صيتهم الحدود الوطنية صوب الافاق العالمية ، بشكل ابداعي عفوي صرف ، لا اثر منه لتوسل الشهرة او السعي نحوها وخطب ودها و رضاها. وحسبنا هنا الاشارة و التلميح الى اهم اللغات العالمية التي ارتحل عبرها محمد شكري/الاسبانية ، البرتغالية، الفرنسية ،الانجليزية ، الالمانية ، الهولندية ، اليابانية ، العبرية...و البقية اتية بلا ريب. ريفي مهمش منبوذ ، يقرا بكل هذه اللغات . انه لآمر عجب ، بل انه امر ،يدعو للفخار و الاكبار. لقد جاءت الشهرة الادبية محمد شكري حبوا صفوا، قبل ان يجيئها قصدا و عمدا . جاءته من خلال تجربته الابداعية والوجودية الذاتية الساخنة و الصادقة قبل ان يجيئه من اي اعتبار اخر. و بعبارة جاءته هذه الشهرة من خلال ''القاع ' الاجتماعي و الوجودي الذي تحرك فيه شكري و عايشه بمسامه و خلجاته حتى النخاع، حتى السويداء ،و عبر عنه ابداعيا بكل الصدق و الحرارة و الصراحة ، و بكل مسامه و خلجاته ايضا،و كانه يغوص في حمأته من جديد و يصطلي بوقدته من جديد. و تلك بالضبط هي عظمة و قوة شكري ، الابداعية و الادبية .تلك هي الامثولة الرائعة يقدها. انه يرقى بالهامش الى القمة ، و انه يجعل من '' القاع الشعبي '' منجما ذهبيا و موردا عذبا و شلالا ، رغم ملوحيته و مرارته،يتقاطر عليه الواردون من كل فج و صوب ، و كل ذلك بفضل موهبة شكري الابداعية و معدنه الانساني ، الاصيل و طاقته الادبية المختزنة على مر الايام و الليالي ، و عبر مشاق الهامش و مغامراته متاهاته الليلية. الموهبة الابداعية + الحنكة الوجودية الخاصة = تلك هي المعادلة التي صنعت و نحتت اسم محمد شكري. و كم في الحياة من هامش و هوامش ، و كم في هذه الهوامش من هامشيين كثر يدبونه فوق الارض و ينشرونه في فجاجها ، لكن المبدع الهامشي او الهامشي المبدع ، نادر و مفتقد ، كما يفتقد البدر في الليلة الظلماء. هنا مرة اخرى ، تكمن عظمة و قوة محمد شكري ، هنا يغدو شكري فردا و نسيج وحده. حين كتب شكري سيرته الجريئة (الجزء الحافي ) بكل الصدق الادبي الجارح و الجريح ، مستقصيا ادق تفاصيل و جزئيات الهامش و الذات ، لم يكن يدور بخلده ان تلك الكلمات و الحروف الصادقة التي خطها فوق الورق ، ستخترق به سياج الهامش لترقى به الى اجواز الشهرة و العالمية . تلك هي الامثولة الاخرى الدالة ، التي تقدمها تجربة شكري الادبية. ان تخترق افق العالمية ، انطلاقا من الهامش الجغرافي و الاجتماعي الخاص الذي تعيش فيه و تكتب منه و عنه. ان تخترق قلوب الناس ، في مشارق الارض و مغاربها ، من خلال التعبير الصادق الحميم عن هموم و خوالج قلبك الخاصة ، و تفاصيل و جزيئات بيئتك الخاصة. و كيما تخترق بأبداعك جغرافيا العالم ,عليك ان تحفر عميقا فيما سماه محمد برادة '' الجغرافية السرية ''لذاتك و مجتمعك. وذلك بالضبط ما فعله شكري ، كما فعله كبار الروائيين و القاصين في العالم ، و هم قلة في جميع الاحوال : العبور الى العالمية ، من خلال ، الارتباط الحميم و الصادق بالمحلية و الخصوصية و الهوية بكل ايجابياتها و سلبياتها ، بكل وشومها و ندوبها. و هموم الناس الدفينة متقاربة و متشابكة مهما تقطعت بهم الامكنة و الازمنة. و ليس الهامش الاجتماعي الرث الذي وصفه شكري بكل صراحة و ''وقاحة '' هو كل ما ينهض عليه ادب شكري و تنهض عليه شهرته ، بل هناك ايضا و في الاساس ، موهبته الابداعية في الكتابة ، كما اسلفت . و هي الظاهرة المهمة و الحساسة التي قلما التفت اليها دارسو شكري و مقاربو تجربته. ان لغة شكري السردية ،بالغة السلاسة و الشفافية و الاناقة و الرفاهة ، سواء في الفاظها ام في تراكيبها النحوية و البنائية ام في صورها و تفاصيلها الوصفية و زوايا رؤيتها و التقاطها للأشياء. انها لغة تشف عن ''مبدع '' منذ الاصغاء الاول لها تشف عن كاتب عاشق للغة و عاشق للكتابة/ و اذا كانت (الخبر الحافي ) بمثابة الشجرة التي تخفي غابة شكري الابداعية ، و هي القيد الذي يغله و ينوء به حسب اعترافه ،فان غابة شكري الابداعية لا تقل يراعة و روعة عن (الخبز الحافي ) ، ان لم تضارعها و تضاهها . و تجدر الاشارة هنا ، الى ان شكري تألق ادبيا و في بدء مساره ، ككاتب حاذق للقصة القصيرة ، وذلك من خلال مجموعته القصصية الاولى التي سلفت الاشارة اليها. (مجنونة الورد) ، الصادرة عن دار الآداب ببيروت سنة 1978 قبل صدور سيرته الشهيرة (الخبز الحافي) بعدئد في 1982. و اول عمل ادبي طلع به شكري على الناس ، كان قصة قصيرة بعنوان (العنف على الشاطئ) منشورة بمجلة الاداب البيروتية ذائعة الصيت. و اضحى شكري بعدئذ ،معروفا على نطاق واسع في المغرب و المشرق ، ككاتب ذكي للقصة القصيرة ، قبل ان يشتهر عالميا بسيرته (الخبز الحافي) التي ترجمها الى الفرنسية الكاتب الفرانكفوني المعروف الطاهر بن جلون و كانت هذه الترجمة نقطة انطلاق ترجمات اخرى لاحقة. و الى جانب هذين العملين ، اصدر محمد شكري مجموعة من الاعمال الابداعية نذكر منها : السوق الداخلي الخيمة زمن الاخطاء جان جنيه في طنجة وجوه الشحرور الابيض حوار و في كل هذه الاعمال ، لم يكن الهامش الذاتي و الاجتماعي هو الحاضر فحسب و المهيمن فحسب ، بل كان ثمة حضور هيمنة ايضا لموهبة شكري الادبية و الكتابية الدالة على ذائقة ادبية رفيعة و حساسية مرهفة و يقظة و بصيرة نفاذة. و كل ذلك ثمرة و نتيجة لتجربة في الحياة و تجربة في القراءة و مطالعة الادب العالمي و شكري قارئ جيد و ذواقة للادب العالمي ، متمثل له و متابع لنماذجه و بخاصة الادب السردي منه و هو مثواه و منتجعه. و لعل كتابه الجميل و الثري (غواية الشحرور الابيض ) اية على ذلك. و الكتاب عبارة عن ست مقالات ادبية و نقدية تطوف بالقارئ طوافا مانعا و يانعا بين افياء الادب العالمي و حقوله ، وتقطر له خلالئذ ملاحظات و تأملات ادبية و نقدية بالغة الدقة و الذكاء. و هذه المقالات و المقاربات هي على التوالي : البطل و الخلاص مفهومي للتجربة الادبية. الرفض و قبح العالم. محاكمة الادب الوشم غواية الشعر و تسامحه. ان هذه المقالات و المقاربات التي تذرع خرائط الادب العالمي ، شرقا و غربا ، جيئة و ذهوبا ، تكشف عن عمق و سعة و ثقافة شكري الادبية و متابعته الحيثية و الذكية لنماذج راقية من الادب العالمي بما فيه العربي و المغربي(موباسون ، همنجواي ، سوستوفسكي ، البيير كامو ، ستاندال ، فولتر ، جوجول ، اميل برونتي ، سارتر ، المنفلوطي ، شوقي ، نجيب محفوظ ، ادونيس ، البياتي ، درويش ، احسان عبد القدوس ، عبد الرحمان مجيد ربيعي ... ) و هو ما شكل الخلفية الثقافية المرجعية التي نفدت و اثرت ابداعه السردي كما يشكل ايضا الوجه الاخر المنسي و المغيب لدى قراء محمد شكري الذي يرون فيه غالبا وجها واحدا ، و هو وجه المتصعلك ، المتمرد على العشيرة و اعرافها الخالع غذار الحشمة و الحياء. و الحق ان شكري كان اكبر و اعمق من ذلك بكثير . لقد كان في عمقه و سريرته قديسا نقيا ، انشف و اصفى من كل التقاة الورعين. لقد كان اولا و قبل كل شيء ، اديبا و مبدعا ، تحدر من اقصى بقعة في الريف ، ليحلق عاليا في اقاصي العالم ، شحرورا ابيض السريرة و الجناح ، عذب الشدو و الهديل. على روحه السلام.