مما لا شك فيه أن الرواية العربية منذ نشأتها إلى الآن، عاشت هموم ومشاكل شعوبها، حيث عالجت قضايا الاستعمار الأجنبي أمام عجز البرجوازية الصغيرة عن مسايرة الرفض، والبحث عن التحرر الذي تطمح إليه الفئات المتضررة. فالرواية، على عكس الأجناس الأدبية الأخرى، قادرة على إعطاء التفسير للخالد والعابر في الحياة وبطرق مؤثرة خصبة، كما أنها تعكس جوانب من الوعي الاجتماعي في لحظاته الحية،اعتمادا على ما تملكه من مقومات تجعله قادرا على التعبير عن الواقع العربي في تقلباته واضطراباته. وبها ومن خلالها تستطيع الرواية أن تستقي مواضيعها الكبرى وتقديم نماذج مصغرة عن حياة الإنسان العربي في تقلباتها وصراعاتها واختلاف أجيالها،فأي إنسان ينتهي من قراءة رواية معينة،سيجد نفسه، حتما، يطرح سؤالا ساذجا ولكنه ذو مغزى، وهو: هل ثمة شخصيات في محيطه الاجتماعي تشبه تلك التي قرأ عنها في هذه الرواية أو تلك؟ وتمثل المغامرة الإبداعية للروائي العربي «نجيب محفوظ» واحدة من أخصب المحاولات الأدبية التي استطاعت، بفضل نبوغه الأدبي، تصوير الواقع المصري، فأنتج لنا روايات تعبر عن مرحلة مهمة من مراحل الحياة المصرية، متجها اتجاها غير مألوف، وهو الاتجاه المنصب على معاناة الفرد داخل المجتمع، وكان لابد من اختيار القالب المناسب لبلورة هذه المفاهيم وهذه المعاني، فكان القالب الروائي الأنسب، لكونه يمتاز بالمرونة ويخلق جوا حواريا ينقل معه المتلقي إلى عالم مليء بالمفاجأة، لذلك حظي جنس الرواية باهتمام كبير من لدن الدارسين والباحثين، حيث ساهم هذا الاهتمام في تنشيط الحوار وتعميق التصورات حوله. وبالتالي يكون أمامنا طرح جملة من التساؤلات التي يمكن أن تستفز كل مهتم بالأدب الروائي. منها: ما هي الرواية؟ كيف يكتب «نجيب محفوظ» رواياته الواقعية دون أن يستعمل لغة المجتمع الواقعية؟ وماالسر الذي جعل روايات نجيب محفوظ لا تزال لحد الآن صالحة لكل زمان ولكل شعب كيفما كانت ثقافته ومحيطه؟ أسئلة ضمن أخرى سنحاول الإجابة عنها في هذه المقالة. إن الأدب والفن ظاهرتان متطورتان، أي أنهما تؤثران وتتأثران بالمحيط اللذان تعيشان فيه، وبالتالي فهما ليسا ظاهرتان جامدتان وثابتان، ولكنهما ظاهرتان دائمتا النمو والحركة والتشكل والتغيير تستجيبان في حركيتهما لظروف بيئتهما. فهي كما لاحظ «باختين» جنس دائم التحول، لأنها لا تملك أية أصول أو قوانين، فهي بطبيعتها تتنافي مع الأصول وتقاوم القوانين، إنها جنس في منتهى المرونة يبحث دوما عن نفسه ويحلل طبيعته باستمرار ويعيد النظر في كل أشكاله. وهذه صفة لا تتوفر إلا في جنس يتكون وينمو في تربة ذات صلة مباشرة بالحاضر المرتبط بالمستقبل. ويذهب «رولان بارت» في بعض كتاباته إلى أن «الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع، وأن الرواية تبدو وكأنها مؤسسة أدبية ثابتة الكيان»1، لذلك فهي أحدث الأجناس الأدبية، بل تسعى أحيانا إلى احتواء كافة الأجناس الأخرى وإلى اقتحام مجالات علمية وفكرية وفنية،فهناك روايات شعرية، وأخرى تاريخية، وروايات فلسفية، وروايات ذات بنية مسرحية وملحمية، وروايات تستعير من الفن السينمائي طرائقه السردية، ومن التصوير تقنياته في شمولية الرؤية أو جزئياتها. إنه جنس مفتوح،لا حدود له ولا ضوابط،دائم التحول متعدد الدلالات، لهذا فقد «أصبح مؤكدا أن الأدب كيفما كانت طبيعة أجناسه وكيفما كانت قيمته الجمالية أو الفكرية، هي البنى الأكثر تأثيرا بالوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، كما أنها من جهة أخرى تؤثر أعمق تأثير في بنية المجتمع، من هنا يبدو الحديث عن أي جنس من الأجناس الأدبية لن يتم أبدا ولن يكون مفهوما على الإطلاق إلا إذا كان هذا الحديث مبنيا على معرفة شاملة ودقيقة بالمجتمع في مرحلة إنتاج هذا الجنس الأدبي»2، هذا ما أدى ب«باختين» إلى القول «بأن نظرية الرواية أصبحت تشغل حيزا كبيرا من كتابات الفلاسفة والنقاد المنظرين ومحللي شعرية الخطاب»3، وبهذا يمكننا القول أنه إذا كان الإبداع يخضع كل شيء للفحص والنقد والتدقيق، ويرصد الحياة في تطورها، فإن الإبداع الروائي بالتحديد يتعامل مع الأرض التي يحيا فوقها، ومع الحياة بكل ما فيها من سخونة وصراع. والرواية العربية سارت بهذا في طريقها نحو الارتباط بالواقع على يد رائدها الكبير «نجيب محفوظ»، فالدارس لرواياته يجدها تعج بالصراعات الواقعية التي تحفل بها الحياة الاجتماعية، ف«ملحمة الحرافيش»، كمثال، ما هي إلا صورة لواقع الفتوة في مصر. ورواية «الثلاثية»، التي تعتبر تصويرا لحقبة زمنية لا بأس بها من التاريج المصري، تتداخل فيها كل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلى جانب رواياته «خان الخليلي» و«زقاق المدق»، و«بداية ونهاية» … إلج، كلها روايات مستمدة من الواقع المصري صاغها «نجيب محفوظ» لتكون شاهدا على الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الواقع المصري. فالسائل عن كتابات «نجيب محفوظ» يكفيه النظر إلى ثرواته الأدبية ليعرف كل التطورات التي عرفتها الرواية العربية،ففي البداية كانت رواياته ذات شكل تقليدي لكنه بعد ذلك بدأ يصبو نحو التجديد، وذلك نتيجة استفادته من العلوم الحديثة كعلم النفس في دراسته للشخصيات فأثمر ذلك مجموعة روائية مميزة نذكر من بينها «اللص والكلاب، فوق النيل، ميرامار، الشحاذ، قشتمر …»، بحيث جاءت كبداية لمرحلة جديدة في كتاباته بدت فيها الشخصية الحكائية هي محور الرواية، إلى جانب استعمال المونولوج الداخلي وتداخل الأزمنة في ذهن البطل بين الماضي والحاضر، زيادة على تعدد الرواة، مما أفقد الرواية المنطقية والوضوح اللذين نجدهما في الرواية التقليدية، خاصة بالنسبة للقراء ذوي الثقافة المتوسطة، مما جعل «نجيب محفوظ» يرجع بكتاباته للشكل التقليدي الذي يتماشى مع الواقع ولم يصل بعد إلى التطور الفكري الذي يسمح له بتقبل كل الأشكال الحديثة. وهنا نجد «نجيب محفوظ» حاول أن يخدم كل الفئات والطبقات المتتبعة له من خلال تبسيط أشكال وأنماط كتاباته داخل إي متن روائي، لكنه كان حريصا على المحافظة على اللغة باعتبارها أساس كل عمل روائي،فهو لم ينح منحى العامية أو الدارجة للوصول إلى أكثر قدر ممكن من القراء، على عكس ما نجده اليوم منتشرا وبقوة داخل روايات عربية تعتمد اعتمادا كبيرا على العامية لإيصال أفكارها ومعتقداتها، فنجيب محفوظ تقرأ له كل الطبقات باختلاف أعمارهم وبيئتهم وثقافاتهم، ويفهمونه دون عناء أو شقاء في فهم المراد من الكلام المسرود «فاللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي من حيث هو»4. ونجد «بشار بن المعتمر» يشير إلى «مسألة المستوى اللغوي الذي يمكن أن يستوي فيه الكاتب بحيث لا يعلو ولا يسفل»5. وغير بعيد عن هذا نجد «التعدد والتنوع في اللغة داخل الرواية يتحقق عبر مستويين من التنضيد: الأول أجناسي وهو يضم جملة من الأجناس التعبيرية المتنوعة سواء كانت (أدبية، قصص، أشعار، قصائد)، أو خارج أدبية (دراسات، مقالات، نصوص بلاغية،)، والثاني مهني، والذي يمثله» بالمعنى الواسع: لغة المحامي، الطبيب، الفلاح، التاجر، السياسي، …)6. ومن هنا، واعتمادا على هذا التنوع في مستويات اللغة داخل الرواية، يتضح أن البعد الاجتماعي حاضرا وبقوة داخل المتون الحكائية، وبه ومن خلاله وجب الاهتمام بلغة وسيطة تخدم كل الفئات دون أن نتجه إلى أرخص الحلول بالاعتماد على العامية لإيصال أفكار أو معتقدات بحجة المستوى الثقافي للقارئ. وهل تستطيع هذه العامية أن تخدم الثقافات الإقليمية لكل منطقة عربية، لكي يستطيع كل قارئ أن يفهم مصطلحات وعبارات هذه المنطقة أو تلك. إن الدارجة «في نظر علماء اللغة، وفلاسفتها، لغة لا ذاكرة لها»7، صحيح أن الدارجة أو العامية لغة الحوار اليومي والتواصل داخل الحياة، لكن هذا يمنع منعا كليا وقاطعا أن تحل محل لغة العلم والقرآن، فاللغة العربية «ستظل هي لغة الرفعة والسيادة، ولغة الدولة، ولغة التقدم، واللغة التي تحفظ العلاقة مع التراث ومع الماضي، ولا توجد في التاريخ نصوص للدارجة»8، لا بد إذن على جميع الروائيين العرب أن يراجع منهجياتهم في الكتابة، خصوصا على مستوى اللغة إذا أرادوا لرواياتهم الاستمرار عبر التاريخ. * باحثة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس. الهوامش: -1 عبد المالك مرتاض: «نظرية الرواية»، عالم المعرفة، عدد 240، 1998، ص 34. -2 عبد الرحمن بوعلى: «البني الأدبية وبنية الواقع»، مجلة الوحدة، العدد 24، 1986. -3 ميخائيل باختين: «الخطاب الروائي»، ترجمة وتقديم: محمد برادة، الطبعة الثانية، دار الأمان للنشر والتوزيع، 1987، ص3. -4 عبد المالك مرتاض، «نظرية الرواية»، سبق ذكره، ص 100. -5 نفسه. -6 عبد الرحمن التمارة: «سوسيولوجيا التعدد اللغوي في الرواية»، مجلة مقاربات، العدد 1، 2008، ص 84. -7 محمد أديب السلاوي: «اللغة العربية، الصراعات المتداخلة»، ط1، 2015، ص 84. -8 المرجع نفسه، ص 84.