وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    ترامب يطالب المحكمة العليا بتعليق قانون يهدّد بحظر تطبيق تيك توك    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن قائمة أفضل الهدافين    فينيسيوس الأفضل في العالم ورونالدو في الشرق الأوسط وفق "غلوب سوكر"    طقس السبت: نسبيا باردا إلى بارد مع جريحة محلية خلال الليل والصباح    3 سنوات ونصف حبسا نافذا في حق محمد أوزال الرئيس الأسبق للرجاء    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    التحقيق في فاجعة تحطم الطائرة الأذربيجانية يشير إلى "تدخل خارجي"    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    النفقة و"تقاسم الثروة" و"إيقاف السكن" .. تصحيح مغالطات حول مدونة الأسرة    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    *بعيدا عن المنطق الاقتصادي: الأسرة تآلف بين القلوب لا تخاصم بين الجيوب    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    توقيف سائقي سيارتي أجرة بمدينة طنجة بسبب القيادة بشكل متهور قرب المطار    وزارة النقل تؤجل تطبيق معيار "يورو6" على بعض أصناف السيارات    خطة استبقاية قبل ليلة رأس السنة تُمكن من توقيف 55 مرشحاً للهجرة السرية    وليد كبير: الرئيس الموريتاني يستبق مناورات النظام الجزائري ويجري تغييرات في قيادات الجيش والمخابرات    أمريكا: روسيا وراء إسقاط طائرة أذربيجانية    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية مرتقبة بعدة مناطق في المغرب من السبت إلى الإثنين    الحكومة ترفع الحد الأدنى للأجر في النشاطات الفلاحية وغير الفلاحية    تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء المضيق    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    الجولة 16 من الدوري الاحترافي الأول .. الرجاء يرحل إلى بركان بحثا عن مسكن لآلامه والجيش الملكي ينتظر الهدية    نهضة بركان يطرح تذاكر مباراته ضد الرجاء    وفاة الرئيس التاريخي لمجموعة "سوزوكي" أوسامو سوزوكي    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    الرئيس الألماني يعلن حل البرلمان ويحدد موعدا لإجراء انتخابات مبكرة    فوج جديد من المجندين يؤدي القسم    الحكمة المغربية بشرى كربوبي تحتل الرتبة الخامسة عالميا والأولى إفريقيا    حضور وازن في المهرجان الدولي للسينما و التراث بميدلت    فنانات مغربيات تتفاعلن مع جديد مدونة الأسرة    ما حقيقة اعتزال عامر خان الفن؟    اختتام ناجح للدورة الخامسة لصالون الإلهام الدولي للفن التشكيلي بتارودانت    الوداد البيضاوي يعلن تعيين طلال ناطقا رسميا للفريق    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    نواب كوريا الجنوبية يعزلون رئيس البلاد المؤقت    بايتاس: إعداد مدونة الأسرة الجديدة مبني على التوجيهات الملكية والنقاش مستمر في مشروع قانون الإضراب    تراجع أسعار الذهب وسط ترقب المستثمرين للاقتصاد الأمريكي    المصادقة على مقترحات تعيين في مناصب عليا    الجولة 16.. قمة بين نهضة بركان والرجاء والجيش يطمح لتقليص الفارق مع المتصدر    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    ارتفاع ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء السياحي المصنفة بالرباط ب 4 في المائة عند متم أكتوبر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    علماء: تغير المناخ يزيد الحرارة الخطيرة ب 41 يومًا في 2024    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحنين إلى مدن الوجد العربي بين الحلم والرؤيا، قراءة في ديوان الشاعر جمال بوطيب : "أوراق الوجد الخفية"

يثوي الحنين في تباريح الوجد، وبين ثنايا القصيد، في ديوان الشاعر جمال بوطيب "أوراق الوجد الخفية"، ناضحا بالشوق المضمخ بالتلوين الباهر لعوالم المدن التي يسري عبقها في شريان النص الشعري، متأرجحا بين حضور افتراضي متحرر من "سطوة الزمان ..وجلال المكان" ونزوع استشرافي، يصبو فيه الشاعر إلى أن يرى ما لا يراه غيره. ولا نمسك بنجوى الحنين في تفاصيل الخلايا الشعرية المفعمة بنغمية غنائية رقيقة في نصوص "كراس المديح" المكونة من خمس قصائد لوحدها، بل تكاد بقية النصوص الأخر أن تجهش بهذا الحنين الآخذ في التنامي كلما أوغلت في عمق الديوان المكتوبة قصائده إلى حدود سنة 2006. في هذه "الأوراق "يقع الحنين إلى مدن الوجد العربي بين الحلم والرؤيا. في الحلم وهج الجمر وبهاء الزهر، وفي الرؤيا توق إلى الآتي الجميل، بفعل الاستشراف المستند لدى الشاعر إلى رؤية للعالم متناغمة ومنسجمة ضمن فلسفته العاشقة للحياة المتطلعة دائما إلى غد مشرق.
يزخر ديوان الشاعر جمال بوطيب "أوراق الوجد الخفية" بالحنين باعتباره فيضا من المشاعر المتداخلة ذات ارتباط وجداني وثيق بفضاءات معينة بعيدة شهدت تجربة إنسانية في الماضي (مدن الوجد العربي). وأصبح لها حضور حميمي في الذاكرة. يمارس الحنين – هنا- جاذبيته على الذات نحو تلك الفضاءات متراوحا بين الغضب والفرح، بين الشوق واللهفة والرغبة في السفر إلى الأمكنة التي تشد الشاعرَ إليها، بين الانبهار واسترجاع صور الماضي فيها. يتأرجح الحنين بين تجرع مرارة الفرقة والبعاد والانتشاء بلحظات جميلة، جديرة بالحياة، بين الأسى والأسف على الحال المتسم بالقهقرى والمآل المرتقب الباهر بوهج الأمل... وينضح الحلم في الديوان بتداعيات مسترسلة للصور الشعرية التي تنداح بلغة مفتونة بالاستعارات والمجازات. مسحورة بنفح المكان والتاريخ، والرمز، تتوسل بالحسي لتسمو إلى الرؤيا.
1- أوراق من كراس المديح وكراسات أخرى
يخص الديوان "بعض مدن الوجد العربي" بهذه الرحلة الحميمية الحالمة والمستشرفة للآتي. وقد مهد لها بعتبة عنونها ب "خمس أوراق من كراس المديح"، وضم الكراس :
- الوقة الأولى: فاس
- الورقة الثانية: وهران
- الورقة الثالثة: القاهرة
- الورقة الرابعة: بغداد
- الورقة الخامسة: بيروت
ومع ذلك لم يحصر الشاعر حبه الذي بلغ مرتبة الوجد في هذه المدن العربية المذكورة، فهي بعض من كل، في العتبة/ الإضاءة التي صدر بها للقصائد الخمس، وذيل الإضاءة بعبارة: "كراس المديح الطبعة العاشرة بعد الألف"، ليحن "مع كل الأحبة إلى... بعض مدن الوجد العربي..." . إن هذه المدن كثيرة بالطبع. اختار بعضا منها لهذا الحنين الثاوي -كما أسلفنا- في نصوص الديوان الأخرى أيضا. انطلق الشاعر من فاس، في رحلته الحالمة المسكونة بهاجس قبس الاستشراف. ومر بوهران فالقاهرة، ليصل إلى بغداد وبعدها بيروت. تحضر في نصوص الديوان "سعيدة" الجزائر و"بصرة" بغداد و"خليل" و"حيفا" فلسطين. وتحضر بغداد الحزينة بثقلها في نص "لك هذه الصلاة" الذي صدّر له الشاعر بعتبة جاءت أسفل العنوان وجاء فيها توصيف : (الورقة الأشد إيلاما في كراس الرثاء)، حيث جاء حضورها عبر التاريخ الذي تكثفه القصيدة من خلال توظيف الدلالة الرمزية ل"بابل". وفي "مرارة النبت"(ورقة باسقة في كراس الخشوع) تحضر مدينة وجدة من خلال توظيف "الوادي الناشف" وهو واد فوقه قنطرة غرب المدينة، لكنه جاف ليس به ماء. وحضوره في النص يقوي إحساس الشاعر بالمرارة والجفاف. وقد أعار الوادي الناشف سماء الوطن العربي مرارة النبت فأمطرت زخات بطعم الموت.
2- جناح الحلم وأفق الرؤيا: الطوفان القائم والقادم
الواقع ما قبل الربيع العربي مؤلم يبعث على الاستنكار والإدانة. ويشحذ عزم الشاعر على الخلق والخرق واستعارة مرارة النبت وتحويلها إلى عطاء غزير كعطاء الغدير... في قصيدة "سأوقف خطواتي" وصفها الشاعر ب(ورقة وفية من كراس الخيانة) يحضر الواقع العربي والقضية الفلسطينية من خلال مدينة القدس. ويأتي الإعلان عن الغضب قويا صارخا بالموقف الرافض للتردي العربي، والتردي سمة تطال واقع الشعر العربي أيضا، لبعده عن القضايا الحقيقية للأمة :
كل قصائدنا
مزورة
حطيئة لو هجا حبَشا
أو دس
في عين الفيل
قافية
ما كان ينقذ قدسا
ولا كعبة"
وفي نفس القصيدة تحضر بغداد من جديد عبر "العامرية". ويدخل الحنين إلى مدن الوجد العربي في قصيدة "في مدن الحلم"،كما في نصوص أخرى من الديوان ليمتطي عنان الحرية في جناح البحر ويرسم آفاقا دلالية رحبة للقصيدة. كما يجنح إلى قبس الرؤيا ليكشف الطوفان القادم :
"في مدن الحلم
التي هدها الطوفان
أرى ما لا ترون
أسمع
نوح القيثارة
ترثي المأوى
والأهل والحمى"
يعلن الرثاء عن مراسيمه بنواح القيثارة ونغمها الحزين. تحلق القصيدة بالقارئ على متن الحلم. ويمتطي الحلم جناح البحر في رحلة يلوذ بها الشاعر كي يصل إلى الكشف المنشود. يقف الطوفان القائم – هنا- في مقابل الطوفان القادم. يتمثل القائم في التمزق العربي، والموت والدمار والحرب والنزاعات والمعاناة الإنسانية. وينخرط الشاعر في حلمه ليبحث عن الآفاق المجهولة للحاضر الحالك. يبحث عنها في عيون سبايا الموت. ويستشرف الآتي ليخبره عن الطوفان القادم الذي يجهز على المقامر بالوطن وعلى الفرد القابل للخرس المستسلم للخنوع ويقضي على سلطة المحقق والسفاح:
"أبحث
عن طوفان
يجر المقامرَ
والمخرسَ والمحقِق والسافك
عن كل ما أرى وما لا ترون
عن بسمة القيثارة
تزف بشرى الحصاد
وعودة السنونو
وغربة الأهل
وإباحة الحمى
وتشرد المأوى"
3- رمزية الربيع واستشراف غد المحال
أصبح الربيع في الأدبيات السياسية اليوم وبعد ثورة الياسمين وما تلاها من تغيير في البلدان العربية رمزا للتحول التاريخي، لثورة الشارع العربي وشبابه التواق إلى التغيير وبناء غد أفضل. ويتحول الربيع في الوطن من خلال "الورقة الأولى: فاس" إلى (فصل لا أمان فيه). وليست فاس في الديوان فاسا واحدة لكنها ثلاث: فاس المؤرخ بائسة، وفاس الشاعر حالمة- مستشرفة، وفاس فاسَ قوية تواقة. لكل فاسه المختلفة. فاس المؤرخ عارية، لا تعرف إلا البكاء والهروب في دهاليز النسيان، إذ تلوذ بصدر النبيذ. صارت ضعيفة حيث تراجع فيها الحب - بتعبير "زهرة المدائن"- و"غاب عنها الرب" بتعبير الشاعر. ذات حضور سلبي ومنفعل. فاس أصلها فأس بالهمزة التي ضاعت من اسم المدينة، فعبر الشاعر بضياع الهمزة عن اللين والضعف. وتختزل الفأس كل معاني القوة والحدة والفاعلية. بينما تصبح فاس المؤرخ في القصيدة لا حول لها ولا قوة. لا تملك إلا الشكوى التي تتجاوز البوح إلى إفشاء وخيانة السر (والبوح خان، سر النشيد). فلا يتمكن النشيد – هنا- من تعدي معاني الحماس والفخر والعظمة إلى النصر وتحقيق الرؤيا، بسبب هذا الوهن والسلبية والانفعالية التي تتسم بها المدينة العربية من وجهة نظر المؤرخ الذي يتقن اقتناص اللحظة السياسية، لكن بغير روح استشرافية. أما فاس الشاعر فإن حالها قد استدعى تناصا ذكيا مع الآية التي خاطب الله فيها السيدة مريم بقوله تعالى: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" . فتكون فاس بهذا التناص الذي عمد إليه الشاعر موعودة بولادة جديدة من أجل تحقيق الممكن الذي كان يبدو مستحيلا. وهو تناص أراد به الشاعر إعادة صياغة استشرافه للواقع العربي بلغة شعرية عميقة تربط بين الحال والمآل، بالارتكاز إلى المقدس والتاريخ والعلم أيضا، باعتبار رمزية فاس العلمية وما تشير إليه عبارة "جذع الأبجدية" في القصيدة من دلالات مرتبطة بهذه الرمزية :
"فاس...
هزي إليك
بجذع الأبجدية
تسّاقط عليك حروفا
اهمزي الألف
والواو..
وما لا يهمز.."
ويمطر النص فاس بتكرار فعل الأمر من (كان)، لتحقق فاس كينونتها المغايرة المنشودة، حيث وظف فيها الشاعر فصلي الشتاء والربيع توظيفا مثيرا. يدعوها لتكون جميلة شهية وبهية مثل "كرز الحسان" شتاءً. ولتكون كما تريد هي أن تكون، متجاوزة لحالها القائمة إلى الحال المأمولة الجديدة ربيعاً.
"كوني شتاءً
كرز الحسان
كوني غير التي بالأمس
فصلها كان
كوني أنتِ
لم يعد الربيع ُ
في وطننا
فصل الأمان"
وأما فاسُ فاسَ فإنها تعبر عن وعيها بذاتها. وهو وعي حقيقي غير زائف. قوية وتواقة. ومع ذلك تعترف بأنها ليست على الحال التي تريد أن تكونها. إنها تستأثر بزهور الربيع كلها، ولا تدع شيئا للمدن الأخرى. أزهار الربيع جميعها من حظ فاس. إنها قبلة المحبين، تبث الحب حتى في القلوب الجافة. لكن النساء رمز الخصب والعطاء يتملكهن الخوف من البرد والجذب شتاءً. وبنفس القدر يتهيبن من هجوم الربيع في فضاء "زلاغ" باذخ الخضرة. ويمارسن عشق الحياة في فضاء "ميموزا" المخملي المعشوشب بفاس الذي تؤمه النسوة للاستراحة ونسيان التعب والملل. وبين الهيبة والعشق، تتمنى فاس لو أنها تكون كما أرادت هي، يؤمها السلام والحب. لكن فاس الحاضرة ليست هي فاس المأمولة الغائبة، إذ"ليست فاس ما تسمع.....إن فاس ما ترى".
غابت تونس عن "كراس المديح" المخصص لمدن الوجد العربي، المكتوب قبل الياسمين بأعوام. كما لم يذكرها الشاعر في أي من نصوص الديوان الأخرى، بينما حضرت فيه فاس التي قالت عن نفسها بلسان الشاعر:
"وأنا ربيعا
صادرت الزهور
وعلى عجاف القلوب
شتاءً نثرت
زخات المطر"
ومقابل ذلك لم تغب فاس – في الواقع- عن الربيع العربي، وهي قلعة الحراك الشبابي – الطلابي منذ نصف قرن ونيف. حضرت من خلال شارعها وساحاتها الطلابية بالتفاعل مع اعتمالاته وتطوراته. ولنا أن نتساءل : فاس الشاعر في "أوراق الوجد الخفية"، باحتكارها للزهور، وبجعلها الربيع فصلا غير آمن، هل كادت أن تخضع لاستشراف يريدها أن تطلق زهرها فيما سيأتي من أحداث وتحولات ستسمى لاحقا بالربيع العربي؟ هل خبأ هذا الاستشراف ياسمين تونس عن العوالم الشعرية للديوان كي تصادر فاس كل الزهور؟ وهل أدت فاس دورها في "غد المحال" العربي ؟ أم لا زال الربيع ينتظرها؟
تنبئ "الورقة الثالثة: القاهرة" عن اللحظة التاريخية التي ستشكل منعطف التغيير، برؤيا ثاقبة كثفها الشاعر في "البرق المباغت" والمقابلة بين الأمس و"غد المحال". يخاطب الشاعر القاهرة قائلا:
"لا تسألي...
ألقُ السنابل
هزّهُ
برق يباغت أمسنا
بغد المحال ْ
والقلب من شرر
العيون
تلا السفاهة
والنباهة
واستقال"
4- اغتيال الركح وقتل الإبداع
تعرض"الورقة الثانية: وهران" لاغتيال الركح وقتل الإبداع، من خلال اغتيال الفنان المسرحي الشامخ عبد القادر علولة سنة 1994 الذي كان قد أخذ يؤسس لفن مسرحي راق ومتنور. وكانت شعبيته تتزايد في الجزائر يوما عن يوم منذ أواسط الثمانينيات، وهو ما أرعب أعداء الإبداع والتنوير. فامتدت يد الغدر إليه. ويوظف الشاعر رموزا تاريخية جزائرية، لاستنفار الذاكرة الجمعية المناضلة والمكافحة ضد الظلم والاستعمار، والتعبير عن الغضب من جراء فداحة الخسارة التي خلفتها العمليات الإجرامية التي طالت المبدعين في الجزائر، فيما يعرف بالعشرية السوداء (1991- 2000) التي شهدت اغتيال الفنانين والسياسيين ومنهم الرئيس محمد بوضياف والفنان الشاب حسني إلى جانب المسرحي عبد القادر علولة. ويوظف الشاعر صنفين من الأَعلام: أعلام شهداء ثورة التحرير بالجزائر، وهم : العربي بن مهيدي، أحمد زبانة وجميلة بوحيرد. وأعلام أمكنة، : حي "بلاص دارم" وهي ساحة بوهران وحي بمدينة عنابة، "لاميري" و"سعيدة" وحي "الحمري" في وهران. اغتيال الركح عبرت عنه عتبة نثرية للنص معنونة ب"غضب" وتساءل الشاعر في هذه العتبة : "ما الذي يبقى من المسرح البلدي، ومسرح الهواء الطلق ب"وهران" بعد سقوط الشامخ "عبدالقادر علولة" الذي وهو يوارى التراب غدرا، رأيت...
المسرح البلدي السامق يتهاوى.....
وخضرة كراسي مسرح الهواء الطلق قد صارت بلون الحصاد"
لقد رأى الشاعر اغتيال الركح وقتل الإبداع. فخاطب جبهة البحر ... رمز الطوفان القادم الذي سيسمى لاحقا بالربيع العربي. ويستعير الشاعر نفس التناص السابق في مطلع القصيدة :
"جبهة البحر...
زجّي بالرُّسغ
في طَرَف الصّبوة
تَنتَفض
محجّاتُ "العربي بن مهيدي"
وأحمد "زبانة"
5- رسالة السلام وزغرودة للآتي
تتحول "الورقة الرابعة: بغداد" إلى رسالة سلام تدعو لحماية الطفولة وحلمها الجميل بغد آمن زاهر. تغني القصيدة للسلام في بغداد، بزخم موسيقي منتظم المقاطع والجمل، يبوح بلحنه وإيقاعه، كأنما كتب الشاعر بين ثنايا سطورها جملا موسيقية محبوكة بنوتة بارعة محترفة تفجر طاقة نغمية داخلية هائلة. تقترب هذه القصيدة من النشيد. فهي بمعنى ما نشيد للسلام، للحنين إلى بغداد الآمنة.
"هذي رسالة
قبلة
أبدية
عنوانها
لحن حياة قادم
إن ترغبوا
في الرد عنها
فالثموا
كل الفراش
وكل زهر
واحلموا"
وبمثل هذا النفس الشعري المفعم بموسيقى النشيد، تعلن"الورقة الخامسة: بيروت" عن تجدد الحياة عبر صرخة الوليد وزغرودة الرضيع، بالرغم من الرصاص. إن بيروت واقفة من دون بكاء. ستظل صامدة. يكشف الاستشراف - هنا- عن استمرارية هذا الوقوف الصامد. ويأخذ الاستقبال صيغة النفي في مطلع القصيدة لتأكيد الشموخ، نفي الفعل الذي يحمل دلالة السقوط (لن تبح الأصوات، لن تهادن الحناجر). وتطلق للغد زغرودة، (لرضيعك... زغرودة الآتي). فينتهي زمن الرصاص. يتعزز هذا الاستشراف في النص برؤبا الشيخ:
"لأن شيخك
قرأ
في كتب السلف
منقوش إسورة
يقول:...
(أنا بيروت...
واقفة،
إن تبكوا
أكبو)
ولا يتوقف افتتان الشاعر بالأفضية الساحرة والأماكن التي أصبحت تكتسي صبغة رمزية. فينقلنا إلى مغارة جعيتا الساحرة، وبطن خبث مضرب الأمثال في غلاء المهور:
"لفطيمك...
أن يذكر أنه
قرب القلبِ
بمغارة جعيطةَ الحبلى
لثمَ خدّك الأحلى
وباع ما تبقى من
جَلَد
ليجعل من أسدِ
بطنِ خَبْث
مفخرة أغلى
لا تتوقف قراءة نصوص "كراس المديح" من ديوان الشاعر جمال بوطيب، لأنها حبلى بالدلالات العميقة. ولا ينتهي رصد أنفاس الحنين إلى مدن الوجد العربي الممتطي صهوة الحلم، الممتشق قبس الرؤيا في "أوراق الوجد الخفية". وحسبنا أننا أثرنا السؤال لاستثارة البحث عميقا في مغالق الدلالة الشعرية المتيمة بالانتماء لخارطة الوطن العربي، المحملة بنفح التاريخ وشواهده، المرتبطة برمزية الأسماء. وقدمنا هذه القراءة للحنين في "أوراق الوجد الخفية" في أفق قراءات أخرى لاحقة للديوان، باعتباره منجزا شعريا إبداعيا دخل الحداثة الشعرية وزاده مثقل ينوء بحمولات فكرية ومعرفية تراثية عميقة قل نظيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.