في السادس من أكتوبرالماضي، وبينما بقيت ساعات على بدء أهم مسابقة للاعبي كمال الأجسام في العالم، مستر أوليمبيا، أُصيب محبو اللعبة حول العالم بالصدمة لخبر العثور على جورج بيترسون، لاعب وأسطورة كمال الأجسام الأميركي واسع الشهرة، ميتا في أحد الفنادق بولاية فلوريدا، عن عمر يناهز 37 عاما. كان الأمر مفاجئا لجميع هواة ومحترفي كمال الأجسام، لكن بالنسبة لدانييل جوارتني وزملائه في كلية بايلور للطب في مدينة هيوستن الأميركية، فالأمر لم يكن كذلك! عمل هذا الفريق على دراسة 1578 لاعب كمال أجسام، من المحترفين الذين تنافسوا في الفترة من 1948 إلى 2014، وتمكَّن الباحثون من الحصول على بيانات كاملة ل 597 من هؤلاء اللاعبين، من بين هذه المجموعة الأخيرة أُبلِغ عن وفاة 58 شخصا، وكان متوسط عمر الوفاة هو 47.7 سنة. نشر الفريق دراسته في "جورنال أوف يورولوجي" عام 2016، مُشيرا إلى أن معدلات الوفيات في لاعبي كمال الأجسام أعلى بنسبة 34% من متوسط الفئة السكانية التي ينتمي إليها معظمهم (الرجال الأميركيون بِيض البشرة)، بل إن معدل الوفيات في الفئة العمرية بين 45-49 سنة كان أكبر بنحو ثلاثة أضعاف مقارنة بالطبيعي. سبب هذه النسبة الزائدة لم يكن واضحا بالنسبة للقائمين على الدراسة، لكنهم رجَّحوا أن أدوية تحسين الأداء، والتدريب التنافسي الثقيل، قد يساهم في زيادة معدلات الوفيات بين لاعبي كمال الأجسام المحترفين في سن صغيرة. تيست آند ديكا ريتش بيانا كان لاعب كمال أجسام غير عادي؛ ضخامة عضلية استثنائية، خطيب مُفوَّه لكن في لغة الشارع، في فيديوهاته على يوتيوب وإنستغرام ستجد الكثير من السباب وكمًّا هائلا من الحماس، وقصصا من الحياة الشخصية وتدريبات أمام الكاميرا وخلطات لأنواع عديدة من المساحيق وحميات غذائية وأحاديث تحفيزية، وبالتالي ملايين المشاهدات لكل فيديو. إلى جانب ذلك، كانت لدى ريتش صفة مميزة، وهي أنه كان يتحدَّث بصراحة عن استخدامه للمنشطات لكي يصل إلى هذا الحجم العضلي، صرَّح بذلك عام 2014، وقال إنّه استمر منذ عمر الثامنة عشرة في ممارسة دورة المنشطات الشائعة المعروفة بين لاعبي كمال الأجسام باسم "تيست آند ديكا" (test and deca)، التي تجمع بين جرعات متتالية من حقن هرمون التستوستيرون بالتبادل مع ديكانوات الناندرولون، وهو نوع من هرمونات الذكورة البنائية، مؤكِّدا أن النتائج المذهلة التي حقَّقها مع المنشطات جعلته يتعلَّق بها. في الواقع، كان صديقنا صريحا كفاية لدرجة أنه عبَّر عن حلم كل شاب صغير يدخل إلى صالة الألعاب (الجيم) لأول مرة. عادة ما ينبهر مثل هذا الشاب المبتدئ بكم العضلات الهائل المعروض أمامه، مع الكم الهائل من التمارين القاسية، والكثير من صيحات التحفيز "عاش يا كابتن"، لكنه بعد عدة أشهر من الجهد لا يُحصِّل عادة أية نتائج تدفع للتفاؤل، وهنا تظهر المنشطات في الأفق، وأخيرا سيعرف السر الرئيسي، وهو أنه لا يمكن أن يصل إلى هذا المستوى الذي يراه في هؤلاء العمالقة إلا بالمنشطات. لهذا السبب بالأساس التف ملايين الشباب من مهاويس تلك اللعبة حول ريتش بيانا، قبل أن يتفاجأ الجميع بخبر وفاته في 25 أغسطس/آب عام 2014، عند عمر 46 عاما فقط وهو لا يزال في قمة مجده الإعلامي، فيما كشف تشريح الجثة أن سبب الوفاة هو فشل خطير في أداء القلب، في الواقع فإن قلب بيانا وكبده كانا يزيدان في وزنهما عن ضِعْف متوسط وزنهما لدى معظم الذكور البالغين. قلب لا يتحمل شيئا حسنا، كنَّا لنتوسَّع أكثر في أحاديث مأساوية شبيهة، وربما تطرَّقنا إلى وفاة بطل كمال الأجسام دالاس ماكارفر عن عمر 26 سنة في عام 2017، أو دانيل ألكساندر الذي توفي عن عمر 31 سنة قبل عامين، أو سكوت كلاين أو روبرت بينافينتي أو تريفور سميث أو لوك وود أو أليكس أزاريان أو ناصر السنباطي أو غيرهم، كل هؤلاء ماتوا في نقطة ما بين الثلاثين أو السادسة والأربعين، الجميع يتشابه تقريبا في التشخيص، تأمَّل مثلا دراسة الحالة التي نُشرت في دورية "إنترناشونال جورنال أوف ليجال ميدسن" وفحصت حالتَيْ وفاة بتوقُّف القلب سنة 2005 للاعبَيْ كمال أجسام كانا تقريبا في عمر ماكرفر وألكساندر نفسه. جاءت نتائج التشريح الدقيق لجسدَيْ اللاعبَيْن لتؤكِّد أن النتائج المورفولوجية (الشكلية) جنبا إلى جنب مع نتائج السمّية اتفقتا على تفسير الوفاة باعتبارها مرتبطة بالآثار القلبية لتعاطي المنشطات. في كلتا الحالتين كشف الدم أو البول عن وجود مادة الناندرولون -التي تحدَّثنا عنها قبل قليل- بنِسَب دلَّت على استخدام مستمر للمنشطات، جدير بالذكر أن هذه ليست حالة الدراسة الوحيدة التي وثَّقت وفاة لاعبي كمال أجسام بأمراض قلبية قاسية كتلك. ما نقوله هنا ليس جديدا بالمناسبة، الستيرويدات الابتنائية (المنشطات) هي أدوية من المفترض ألا تُصرف إلا بوصفة طبية، في حالات مَرَضية مُحدَّدة جدا، ورغم أن الأمر وصل في بعض الدول إلى عقوبة تتضمَّن غرامة غير محدودة، أو حتى السجن لمدة تصل إلى 14 عاما، للاستخدام المخالف لها، فإن لاعبي كمال الأجسام يحصلون عليها بسهولة لزيادة كتلة العضلات وتحسين الأداء الرياضي، سواء من الصيدلية، أو من الصالات الرياضية (الجيم) وهو الطريق الأسهل. الآثار الجانبية للستيرويدات الابتنائية معروفة ومكتوبة داخل العبوة نفسها، حيث يمكن أن يؤدي استخدامها بشكل لا يتناسب مع الجرعة المُحدَّدة إلى انخفاض عدد الحيوانات المنوية والعقم والضعف الجنسي لدى الرجال وزيادة خطر الإصابة بعدة أنواع من السرطان، مع فرصة أكبر للإصابة بنوبة قلبية أو سكتة دماغية أو مشكلات كبيرة في الكبد أو الكلى، مع ارتفاع ضغط الدم والجلطات، وحتى السلوك العدواني وتقلبات المزاج والهلاوس والأوهام! أباطرة التكديس إذا كنت مُقبِلا على استخدام تلك المنشطات لكنك عرفت أعراضها، فيمكن أن يقول لك المدرب إنك ستأخذها "بشكل صحيح" من أجل دفع القلق عنك، لكن دعنا نؤكِّد لك هنا أنه لا يوجد أي شكل صحيح لتناول هذه الأشياء، بعض لاعبي كمال الأجسام يتناولون هذه الأدوية مدة من الوقت ثم يتوقفون مدة للراحة قبل البدء من جديد (يُعرف هذا باسم "نظام الدورات" (Cycling))، البعض يأخذ أكثر من نوع واحد منها في وقت واحد (يُعرف هذا باسم "التكديس" (Stacking))، البعض يمزج بين الطريقتين فيبدأ بأخذ جرعة منخفضة ثم زيادة الجرعة بمرور الوقت حتى أقصى جرعة، ثم يتوقفون عن التعاطي لفترة لإعطاء الجسم استراحة قبل بدء الدورة مرة أخرى (يُعرف هذا باسم "بناء الهرم" (Pyramiding)). لكن لا يوجد أي دليل على أن أيًّا من هذه الطرق تُقلِّل بالفعل من الآثار الجانبية الناتجة عن تناول الستيرويدات الابتنائية. الأمر الآخر أنه لا أحد يخبر مَن يتعاطون المنشطات أن هذه العقاقير ذات طبيعة إدمانية، ما إن تستمر معها قليلا حتى تطالب بالمزيد للحصول على التأثير نفسه على العضلات، بل إنك ستعاني بعض أعراض الانسحاب إذا توقَّفت فجأة عن تناولها، التي تتضمَّن الاكتئاب واللا مبالاة ومشاعر القلق والصعوبة في التركيز والأرق وفقدان الشهية وانخفاض الدافع الجنسي والتعب الشديد والصداع وآلام العضلات والمفاصل. كل هذا ولم نتحدَّث بعد عن كارثة أخرى تُدعى المكملات الغذائية، التي تظل سلامتها بالنسبة للمختصين في هذا النطاق من أطباء وباحثين مصدر قلق، خاصة أنه قد وُجد أن العديد من منتجات كمال الأجسام التي تُسوَّق بوصفها مكملات غذائية تحتوي على مكونات أخرى يمكن أن تكون ضارة جدا إلى حد الوفاة. في هذا السياق، تُشير الدلائل البحثية إلى أن الكرياتين، وهو مكمل غذائي شائع، قد يُعزِّز من تأثير التمارين على القوة وكتلة العضلات والقدرة على التحمُّل، ولكنه قد يُسبِّب أيضا أضرارا جانبية وخيمة، وهناك أدلة على أن استهلاك الكثير من البروتين على المدى الطويل يمكن أن يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بهشاشة العظام، ويمكن أن يؤدي أيضا إلى تفاقم مشكلات الكلى. في المجمل، فإن أخطر أنواع المكملات الغذائية، بحسب دراسة من جامعة هارفارد، هي تلك التي تروَّج خاصة لبناء الجسم والتخسيس والقدرة الجنسية، ورغم الإقبال المرتفع عليها وتعدُّد أماكن بيعها، فإن ظروف تصنيعها تظل مجهولة، ولا تحظى بدعم أي جهة صحية موثوقة. ثقافة كمال الأجسام يبدو الولوج إلى عالم كمال الأجسام إذن أشبه بالولوج إلى مبنى مُحاط بكل إمكانات الانهيار، والواقع أن المشكلة تبدأ بمجرد وضع إحدى قدميك داخل هذا العالم بالفعل، يُعيدنا ذلك إلى "بيانا" مرة أخرى الذي صرَّح في مقطع فيديو عام 2016 أن لاعبي كمال الأجسام المحترفين ليس لديهم الاختيار لرفض المنشطات، لأنهم لا يستطيعون إحراز تقدُّم على هذا المستوى دون استخدامها، وأضاف بوضوح: "كنت أصل إلى النقطة التي أُخيَّر فيها بين أن أستمر في العرض على المسرح، وبالتالي سأضطر لتناول المنشطات باستمرار، أو أخرج، وقد قرَّرت الاستمرار". لا يكون القرار بالكامل في "يديك" كما سيقول أحدهم لك في صالة الألعاب الرياضية، لأنه في مرحلة ما قد يتجاوز الأمر حاجز الرغبة الطبيعية في جسد رياضي. في دراسة نُشرت بدورية "إيتنج ديسوردرز" فحصت مجموعة من لاعبي رياضات الدفاع عن النفس وغيرها مقارنة بممارسي كمال الأجسام، أبلغ لاعبو كمال الأجسام عن قدر أكبر من عدم الرضا عن الجسم، الذي يؤدي إلى دافع كبير للحصول على الكتلة العضلية بأي ثمن. بالإضافة إلى ذلك، أبلغ لاعبو كمال الأجسام عن ارتفاع كبير في مقاييس الكمال، والشعور بعدم الفعالية وانخفاض احترام الذات، ما يعني أن لاعبي كمال الأجسام الذكور مُعرَّضون لخطر الإصابة بما يُعرف ب"اضطراب تشوُّه صورة الجسم". اضطراب تشوُّه الجسم هو حالة مَرَضية لا يتمكَّن المصاب بها من التوقُّف عن التفكير في واحد أو أكثر من العيوب أو النقائص التي يتصوَّرها عن جسده ومظهره، ومهما كانت هذه العيوب بسيطة أو حتى غير مرئية في نظر الآخرين، فإن صاحبها يعاني حرجا شديدا بسببها، ما يدفعه للتركيز بشدة على المظهر وصورة الجسد، والوقوف لساعات طويلة أمام المرآة كل يوم. كل ذلك يتسبَّب مع الوقت في دعم إدمان المنشطات والمكملات، والأهم من ذلك أنه يُعزِّز ثقافة مُتجذِّرة في هذا العالم. في أحد أهم جوانبه الجوهرية، فإن "كمال الأجسام" ليس مجرد أثقال تحملها أو تمارين تؤديها، بل هو ثقافة يتشاركها عدد من الناس يُشكِّلون مجتمعا مترابطا، يقضي أفراده بعض الوقت مع بعضهم بعضا، ويقوم على قاعدة واحدة أساسية وهي الشكل المثالي للجسد، ينتج عن هذا الترابط ما يشبه "الطائفة"، فتجد مدافعين متحمسين عن كمال الأجسام وكأنها "ديانة" خاصة بهم. في هذا السياق الذي يُعزِّز صورة مشوَّهة للإنسان عن جسده، يصبح من السهل أن تقع في أسر كل ما تتضمَّنه هذه الثقافة، التي لا شك ستُشير بالسبابة في مرحلة ما إلى المنشطات والمكملات والتمارين الرياضية التي تتخطى الحاجز المُمكن لقدرات الجسد. وهنا تحديدا يقف جورج بيترسون وريتش بيانا، وغيرهم ممن ما زالوا على قيد الحياة ويستمرون في الاستعراض على مسرح مستر أوليمبيا بكم عضلات غير طبيعي لا يمكن أن تصل إليه إلا بالخوض في هذا المستنقع الموحل، وفي أثناء ذلك يُلهبون سنويا عواطف مئات الملايين من الشباب في العالم أجمع، وفي الوطن العربي كذلك. بعضهم يدخلون أفواجا في تلك المَعمعة، لتدور الدائرة من جديد بلا نهاية! *عن الجزيرة