شرع الله عز وجل الزواج تكريما للنوع الإنساني وبقاءه وفق نظام شرعي متكامل، وجعله ميثاقا غليظا ليكون مصدر معونة متبادلة ورحمة ومودة، "ولمّا كان الإسلام دين الفطرة يستجيب لها، وينظِّم مجراها، شَرع الزواج تلبية لهذا النداء العميق المستقر في أعماق هذا الإنسان وكيانه، وجعل الزواج هو الطريق الوحيد الذي يعبّر عن إشباع هذه الرغبة وإروائها." [«الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي» (4/ 13)]. وجعل من مقاصده "الدوام" لتحقيق أسرة مستقرة حتى يتأتى منها «تكاثر النسل، والحفاظ على النوع الإنساني، وإنجاب الذرية، وتحقيق العفاف، وصون الإنسان عن التورط في الفواحش والمحرّمات، والتعاون بين الرجل والمرأة على شؤون العيش وظروف الحياة، والمؤانسة، وإيجاد الود والسكينة والطمأنينة بين الزوجين، وتربية الأولاد تربية قويمة في مظلة من الحنان والعطف.» وهذا مما تقرر شرعا وفقها وقانونا. جاء في "المادة: 4" من مدونة الأسرة المغربية في تعريف الزواج أنه: "ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام..." ويعلق الدكتور "محمد الشافعي" على هذه المادة فيما يخص الدوام، أن مدونة الأسرة "نصت على أن عقد الزواج يجب أن يكون القصد منه الدوام والاستمرارية، بمعنى أن النية تكون منصبة على ديمومة الزواج، وذلك بغض النظر عن انحلال الرابطة الزوجية بطرق شتى ،كالطلاق، والتطليق، والوفاة، والفسخ، ويقصد المشرع بالاستمرارية في الزواج ألا يتعاقد رجل وامرأة على الزواج لمدة معينة، فالمشرع المغربي سار على غرار المذاهب السنية الأربعة في تحريم زواج المتعة والزواج المؤقت لتنافيهما مع شرط التأبيد في الزواج".[الزواج في مدونة الأسرة، محمد الشافعي، ص:32] لكن هذا الدوام قد يكون في بعض الحالات ضيقا وحرجا على الأزواج، لذلك "أباح الله لكل واحد من الزوجين أن يحل عقدة الزواج وحده، ولم يلزم تراضيهما وتوافق إرادتهما عليه، كما لزم تراضيهما على عقده؛... بل لكل منهما الانفراد به دفعا للضرر عن نفسه". [«أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية» (ص133)] وعن حكمة تشريع الطلاق يقول الشيخ "محمد التاويل" ما نصه أن الطلاق : "يمثل مظهرا من مظاهر اليسر في الشريعة الإسلامية، ورحمة من رحماته تعالى بهذه الأمة، وبابا من أبواب الفرج، ونافذة من نوافذ الأمل للزوج والزوجة والأسرة جميعا، للخروج من الأزمات المستعصية التي لا حل لها عند هجومها بأقل ضرر ممكن... وهو بعد هذا يعتبر العلاج الناجع والحل السلمي الصحيح والأمثل للخروج من زوجية فاشلة غير مرغوب فيها، ولا مرحب بها، ينعدم فيها التفاهم والتراحم، ويختفي منها الانسجام والتواد والتحاب، ويسودها الخلاف والشقاق والكراهية والعداء، وتبادل التهم".[شذرات الذهب فيما جد من قضايا النكاح والطلاق والنسب، محمد التاويل، ص: 270-271]. فالطلاق إذن رحمة ونعمة باعتباره حلا سلميا بين الزوج والزوجة يفترقان به، إذ الإصلاح يكون مرة بالجمع، ومرة بالتفريق؛ فإن تفرقا كان ذلك خيرا لهما، قال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}[النساء: 130]؛ أي الزوجين، بالطلاق، فيجعل لكل من الزوجين غنى له عن صاحبه، بحيث يرزقه من فضله سبحانه زوجا عوض عن زوجه، وغير ذلك من المعاني والحكم المناطة بالتفرق. قال الجصاص في أحكامه عقب الآية أنها: «تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة، تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها، وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه.»[ «أحكام القرآن للجصاص ط العلمية» (2/ 356)] وهنا نريد أن نقف على جمالية الفراق في الإسلام، بما هو حل سلمي كما سبقت الإشارة إليه، لأن الله عز وجل أمر بالإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان قال تعالى: {ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰن} [البقرة: 229]، وقال: {وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوف} [البقرة: 231]، وقال أيضا: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّة تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحا جَمِيلا} [الأحزاب: 49]، وقال عز من قائل: {فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوف} [الطلاق: 2]. فعندما نتأمل الآيات نجد الأمر بدعوة الأزواج عند الفراق أن يكون ذلك بإحسان أو معروف أو سراح جميل، وكلها مفردات تجمع الخير كله من الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة في تدبير إنهاء العلاقة الزوجية. وروي عن الحسن في تفسيره للميثاق الغليظ بأنه : «هو قول: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)» [«تفسير الراغب الأصفهاني» (3/ 1157)] فكما كان الالتقاء على المودة والرحمة وطلب الطمأنينة والسكينة، فكذلك ينبغي أن يكون الطلاق والفراق على نفس الشاكلة خصوصا إذا كان بين الزوج والزوجة أولاد، فتبقى العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل بين المفارقين، حتى ينشأ الأولاد بعيدا عن العداوة والبغضاء. وبالإضافة إلى طلب الجمال في السراح، دعا الله عز وجل المفارقين إلى عدم نسيان الفضل بينهما، قال تعالى: {وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَيۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، قال السمرقندي في تفسيره: «لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم»[«تفسير السمرقندي = بحر العلوم» (1/ 156)]. وهي دعوة عامة للرجال والنساء إلى تذكر الجميل ونسيان القبيح فيما كان من العلاقة الزوجية، لأن من شأن ذلك أن يقطع دابر الخصام والنزاع الذي يحدث بين الأسر والعائلات ويؤذن بفساد ذات البين، وفي ذلك يقول الإمام الزحيلي: «وعلى الزوج ألا ينسى مودة أهل البيت الذين تزوج منهم ثم طلق، وألا يهجرهم أو يسبهم ويلعنهم ويحقد عليهم، كما هو حال الناس اليوم مع الأسف بعد حدوث الطلاق بين زوجين، فصارت رابطة المصاهرة بعد انفصالها مرتعا للمخاصمات والمنازعات والمهاترات والمكائد، وهذا كله مناقض لكتاب الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.[«التفسير المنير – الزحيلي» (2/ 390)]. ويقول الأستاذ "محمد ثروت": "المتأمل في النص القرآني الحكيم {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، يجعله أشمل وأعم من السياق الذي نزلت فيه ضمن أحكام الطلاق، لتشمل الوفاء بالعهد وعدم نسيان المعروف، ورد الجميل والمبادرة بالعطاء وتذكر المواقف الجميلة بين الناس في حياتهم اليومية. ...إلا أن معناها[أي الآية] يمتد إلى الفضل في كل شيء في المعاملات اليومية بين الناس. فالعلاقات بين الناس لا تقاس بالمسطرة، أو تقام بشكل هندسي صرف، ضمن قاعدة "هات وخد" المبنية على المصلحة الوقتية والمنفعة والمواقف المتغيرة، وإنما تقاس العلاقات الإنسانية بالتراكمات والمواقف السابقة، التي لا ينسفها موقف واحد، ينقطع معه التعامل والتواصل بين الناس، ويحدث الانقلاب المفاجئ في العلاقات بينهم، لتصبح الجفوة مكان المودة، والبعد محل القرب، والقسوة والكره بدلا من الحب والرفق، وترصد الأخطاء والعيوب بدلا من التغاضي عنها وتذكر الأجمل والأفضل في الآخر"[وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.. درس الوفاء فى حياتنا اليومية، بقلم: محمد ثروت]. إذن فهي دعوة إلى العفو والمسامحة، ويتأكد ذلك في حالة الفراق، الذي تتداخل فيه عوامل كثيرة تذكي ناره التي تأتي على كل جميل كان بين الزوجين، وعليه كما كان اللقاء جميلا ينبغي أن نجعل الفراق جميلا.