"حياة الماعز" فيلم أثار نقاشاً واسعاً وحقق متابعة إعلامية غير مسبوقة من حيث نسب المشاهدة وكثافة النقاش العام. الأعمال الناجحة هي التي تُحدث أثراً، وتُثير نقاشاً، وتنتج عنها اختلافات وتباين في المواقف والأحكام. توالت الأحكام بأن الفيلم يستهدف الإساءة إلى السعودية والمجتمع السعودي عبر انتقاد نظام الكفيل بمبالغة مقصودة، من خلال قصة عامل هندي صارع الموت في الصحراء هرباً من كفيل مزور. في المقابل، كان هناك احتفاء مبالغ فيه بالعمل، حيث قيل إنه دمر كل ما قامت به هيئة الترفيه لرسم صورة جديدة للبلد. أغلب التقييمات حكمت على الفيلم من زاوية سياسية، واعتبرته مؤامرة ضد البلد ومؤسساته. مضمون الفيلم واضح في انتقاده لنظام الكفيل. دون التوقف عند تفاصيل أحداث الفيلم ولحظاته الأسرية التي لا بد من مشاهدتها، فإن رحلة نجيب في الصحراء كانت سعيًا للخلاص والتحرر من المعاناة في صحراء تشبه السجن الكبير. الهروب منها كان يعني الموت المحقق، حيث الرمال الحارقة، النسور الجارحة، الأفاعي السامة، العطش، الحر الشديد، وغياب الأمل، لولا حضور شخصية قاديري كهدية من السماء. نجيب يستعيد طمأنينته عندما يصبح جزءاً من واقع الصحراء، بلا ذاكرة تنسى زوجته، أمه، بيته، أحلامه وحتى عدد الأيام التي قضاها في الصحراء. أربع سنوات جعلته يعيش حياة الماعز، يتوحد مع الأغنام، يحبها، ويشاركها طعامها وشرابها. يستعيد نجيب توتره وقلقه عندما يلتقي بصديقه حكيم، ويستعيد حلم الهروب باستغلال فرصة عرس ابنة الكفيل. نقطة التحول في الفيلم تكمن في حضور غير المتوقع لرجل أفريقي يُدعى إبراهيم قادري، يعرف طرق الصحراء، ويتولى إرشادهم للفرار كما يفعل الأنبياء والرسل لإنقاذ البشر من متاهة الحياة وتحديد الطريق إلى الله. يصف حكيم هذا الرجل قائلاً: "كأنه أرسل إلينا، مثلما أرسل الله النبي موسى كي نصل إلى الله". المخرج كان موفقاً في اختياره لرجل أفريقي ليقود رحلة الخلاص، لأن الذاكرة الجمعية تحتفظ دائماً بصور نمطية عن الإنسان الأفريقي كعبد، ولا يُفترض أن يكون قائداً في رحلة طويلة في الصحراء التي تشبه رحلة الحياة المعقدة. إشارات كثيرة تجعل من الفيلم درساً فلسفياً وإيمانياً: 1- حضور شخصية غير متوقعة في وقت الأزمة: تكشف عن ثنائية الخير والشر عبر المقابلة بين شخصية الكفيل المزور والرجل الذي أنقذ نجيب في نهاية الفيلم. 2- انتصار الخير على الشر: تجسد عبر رمزية عودة نجيب إلى وطنه. 3- ثمن الوصول إلى الحقيقة: يتطلب نفس ثمن الوصول إلى الإيمان، وهو ثمن الجسد، من خلال التحولات التي طرأت على جسم نجيب الذي أصبح هزيلاً يمكن إحصاء عظامه، خاصة في لحظة عريه قبل عملية الهروب. 4- الصراع بين الأمل واليأس. 5- السراب والحقيقة. 6- حضور الله في أوقات الشدة. 7- أهمية الصبر والأمل والثقة في الله: كشرط للبقاء، كما يتجسد من خلال رمزية موت حكيم بعد أن شك في قدرة قادري على الوصول إلى الطريق. 8- المماثلة بين العطش البيولوجي والعطش الوجودي: قيمة الماء تشبه قيمة الإيمان، الأول يروي العطش البيولوجي والثاني يروي العطش الوجودي. 9- التخلي عن المتاع: شرط لمواصلة الرحلة، وهو إشارة إلى سلوك التدين في علاقته بالزهد والتقشف وأخذ ما يدوم من متاع الدنيا. 10- التركيز على الطريق: تكررت كلمة "طريق" أكثر من أربع مرات في إشارة إلى النموذج الإرشادي للخروج من التيه والصحراء. ورغم حمولته السياسية، يرتبط عمق الفيلم بسؤال الخلاص عبر استكشاف الطريق إلى النجاة، والذي تجسد عبر شخصية قادري العارفة بالطرق في الصحارى، وصحراء الحياة والعطش والتيه الوجودي. قد يشعر المتفرج بنوع من الملل نتيجة طول الطريق، لكنه ملل يشبه ملل الحياة وطولها وتشابه الأيام فيها. يموت حكيم عندما يفقد الثقة ويتسرب الشك إلى قلبه، ويطرح السؤال على قادري، الذي اعتبره سابقاً نبيًا بعثه الله، حين أمسك بخناق قادري صارخاً بغضب: "لماذا لا نصل إلى طريق ما؟ يضلنا الشيطان عن طريقنا"، وبعدها يسقط حكيم ميتاً، حيث يمثل الموت الشك وعدم الثقة في القدر. ينتهي الفيلم بنتيجة منطقية: الوصول إلى الماء/ الإيمان والطريق. في هذه اللحظة، يختفي قادري كإشارة إلى أن الله دائم الحضور لمن يطلبه ويترجاه. حينها يهتف قادري: "الحمد لله أنك أظهرت لنا الطريق". نجيب يحاول أن يشرب الماء دفعة واحدة من شدة عطشه، لكن قاديري يحذره لأن ذلك قد يؤدي إلى الموت، مما يشير إلى أن الإيمان لا يكون دفعة واحدة وإلا كان تطرفاً وموتاً. القراءة الاختزالية للفيلم ركزت على شخصية الكفيل المزور الذي لا يعرف سوى لغة التعذيب والإهانة، وسعت لتعميم هذا الاستنتاج على عمق الفيلم وأبعاده وتطبيقه على المجتمع السعودي بأسره، وهو أمر ظالم. في حين تم تجاهل شخصية الشخص الذي أنقذ نجيب وأوصله إلى المدينة/ الحياة، مما يعكس أن ثنائية الخير والشر هي سلوك إنساني يتجاوز كل الحدود.